الأحد، 16 مايو 2010

إهـــــــــــــــــــــــــداء ..



إلى روح أخي "عابد" .. أستاذي ومعلمي ..
الذي برع في التعبير عن حبــــه لي بسخريــــــاتة اللاذعة مني .
عساي أن أنجح في التعبيرعن حبي له..
ولو بالسخرية من نفسي !

* * *



إستهـــــــــــــــلال ॥


قالوا :
ثمة أشياء تبدو من "نافل القول" .. أو أقل أهمية من أن يذكرها المرء أو يدونها .. لكنها أهم بكثير من أن يهملها أو يتناساها ..
وأقول :
وعندما يـتقدم بنا العمر .. نصبح أكثر صدقا مع ذواتنا .
نعرف قدرأنفسنا.. وربما نتوقف عن الأحلام الكبيرة .. و ندقق في إنتقاء صغارها.
وعندما يقسوعلينا حاضرنا .. يصبح الماضي ملاذنا ومأوانا .. ويطيب لنا أن نرسوعلى شطآنه .. ونحتمي من "صهد" الواقع ، أو "صقيعه" ، بربيع الذكريات .. مستلهمين منها ما يجعلنا نستعيد شيئا من حرارة الشباب ...
وربما نلوذ بـ "الكتابة" إتقاء من تيه التداعيات .. وحلقاتها المفرغة.
فثمة خواطر، لو وضعناها على الورق ، تغدو مثل سفح الجبل ونحن نرقبه من أعلاه ..
نكتشف فيها مساحات من ذواتنا (والآخرين) لم نكن نعرفها ..
ففي الكتابة متعتين : متعة البوح .. ومتعة التواصل والاكتشاف ..

* * *

وأخي قال لي :
والكتابة يا صديقي ॥ هي ذلك الشكل المتاح (ولوخلسة) لممارسة تلك الرفاهية المستعصية .. الحـــــــــــرية ।


* * *




أما قبـــــــــــــــــــل ..

فقد راودتك ، في فترات متباعدة ، فكرة الكتابة عن "تجربتك السينمائية" ، التي حظيت ببدايات طموحة مُرضِية ، بحيث كانت موضوعا لكتابات العديد من الكتاب أو النقاد في مصر، وفي العالم العربي ، وغيرالعربي . ولا أحسبك كنت ستقع تحت تأثيرهذه الفكرة وإلحاحها ، فكرة الكتابة .. أوالتدوين ، لو كانت الأمور قد استمرت على الشكل الذي بدأَت عليه .. إذن لتركت لهم ، أصحاب الأقلام ، مهمة إتمام ما بدأوه .. ومضيت أنت في تطوير تجربتك .
وفي لحظة ما ، إثر حوار طال بين طبيعة الرياح وما تشتهيه السفن ، آثرتَ أن تلجأ .. أو على وجه الدقة .. أن "ترسو" في ميناءك المرسوم . ذلك هو ما كنت تسميه "سينما لفلسطين" .. تمهيدا الى تحقيق حلمك الأكثر طموحا .. "سينما فلسطينيه" !
فكان أن اتسعت التجربة ، وباتت ذاكرتك تزخر بالكثير مما يمكن أن يقال وما يستدعي "التدوين" في هذا المجال .

و يصادف ، في وقت لاحق ، ذلك الإلحاح على مشاركتك في كتابة جزء من الملف الذي أصدرته مجلة "أدب ونقد" القاهرية في أكتوبر 1993، بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة صديقك الكاتب المسرحي "محمود دياب" . فيكون لهذه المساهمة أثر في استرجاعك لبعض التفاصيل المبكرة لتجربتك مع السينما والرواية بشكل عام .
كأنما أمسكتْ يدك بخيط البداية .
ثم تتطورالفكره .. فكرة الكتابة عن تجربتك السينمائيه .. الى مشروع أوسع .. وهو كتابة تقترب من ما يعرف بتدوين السيرة الذاتية . بداية ، بهدف الإبحار في الذات والتأمل فيها وفيما كان من حولها .. ومن ثم ، لمجرد إضفاء قيمة ما إلى الوقت الذي كان يزحف ببطء قاتل . ذلك أثناء "فراغك" ، الذي طال واستطال ، في انتظار صدور التصريح لك ، من قبل السلطات الإسرائيلية ، بدخول أراضي "الحكم الذاتي" .. بعد توقيع إتفاق "أوسلو".. وانتقال دائرة عملك ، "دائرة الثقافة" في منظمة التحريرالفلسطينية ، من تونس الى "غزه" .. ومن ثم إلى "رام الله" التي رضيت بالمقام المؤقت فيها لقربها من مدينتك ومسقط رأسك .. القدس .
ومما جعل الفكرة تتطور أكثر وأكثر، هو سؤال :
من أين تبدأ ؟
هل تبدأ منذ أن تفرغت للعمل في منظمة التحرير .. في بيروت ؟
أم منذ أن بدأت حياتك العملية .. في القاهرة ؟
أم منذ بدء دراستك المتخصصة في السينما.. في فيينا ؟
أم من حيث ابتدأتْ معاناتك الصامتة من القمع الذي كان يسكت أشواقك إلى الاستزادة من إشباع إهتماماتك الفنيه ؟
وتظل الأسئلة تعود بك الى الوراء شيئا فشيئا . لأن الحكاية تتعلق بتاريخ وبدايات تشكيل وعيك ، ليس فنيا فقط ، ولكن وعيك بشكل عام .. فنياً .. وإنسانياً .. واجتماعياً .. وسياسياً أيضاً .. فالحكاية لا تتجزأ !
وتشغلك ، بشكل عابر، مسألة "الشكل".. ولكنك تتغلب عليها بعد أن تسترجع في ذهنك المعارك ، التي قامت ولم تقعد ، حول "الشكل" و "المضمون".. إلخ . فتتمثل بالقول القائل :
"لكل حادث حديث" .. أو .. "لكل مقام مقال" .
شيء ما يجعلك تتردد ، في بعض الأحيان .
أغلب الظن أنه ذلك الخلط أو الإندماج اللاإرادي (الذي تجاوز عندك القدرالمألوف) بين الخاص والعام .. أو ذلك الإقتحام المتبادل بينهما . وهي حالة ربما كانت تفرضها حياة المنفى .. وأوضاع "الثورة" ، التي انتميتَ إليها والتزمتَ بمبادئها ، في الشتات .. ومعاناة قسوة الإغتراب والوحدة .
فهل يليق بك أن تتحدث عن "حالة" شخصية أثّرتْ فيك ، وكادت أن تجرك إلى حافة رمال الإرباك المتحركة ، بينما أنت تتصدى لتفسير موقف يتشابك مع أحد الجزئيات المرتبطة بالجانب الذي يتعلق بك من التجربة السينمائية الفلسطينية و التي تزعم أنك بصدد تسجيل شهادتك بشأنه .. أو تقييمك له .. أو لها ؟!
أو هل يليق بك أن تتضمن سطورك ، أو ما بين سطورك ، ما يشي من قريب او من بعيد بأن إلتزامك المطلق أمام نفسك تجاه قضيتك ، ذلك الإلتزام الذي ارتضيته بمحض إرادتك واختيارك ، قد ساهم في تدمير جانب هام من جوانب حياتك الشخصية ؟!
والأكثر حرجا من هذا وذاك أن لا تجد دليلا على تقصيرٍ ما كنت تراه ، أكثر دلالة مما كان في تجربة كنت أنت أحد أطرافها . وهنا تبدو المسألة وكأنها من جراء موقفك الشخصي من الأشياء . وتغدو شهادتك خلوا من الموضوعية التي أفنيت عمرك في محاولة التمسك بأهدابها ، والصدق الذي تتوق إليه و تتباهى بعشق ممارسته .

لكن مهلاً !
فأنت ما زلت تستبعد ، أصلاً ، فكرة النشر التي يحاول بعض أصدقائك المقربين أن يقنعوك بها .
كذلك فأنت ، بالرغم من عشقك للتاريخ ، لا تنوي "التأريخ" بقدرما أنت تشفق أن لا يتمكن ذلك الذي (كان الله في عونه وألهمه الصواب) سوف يأخذ على عاتقه تلك المهمة من أن يلم إلماما كافيا بالدور المتواضع الذي قدر لك أن تقوم به في فترة من فترات نشوء ما سوف يسمى بالسينما الفلسطينية. فلعل ما سيرد في سيرتك هذه ، مما له علاقة بها ، أن يسد بعض الثغرات التي سوف يتعثر بها .

وأخيرا .. وليس آخرا ..
لكأنك ، بالكتابة ، إنما تحاول إسكات أشواقك المتأججة إلى لغتك التي أحببتها وما زلت تهيم بها عشقا .. لغة السينما .. وكأنك ما برحت تتطلع إلى اليوم الذي سوف تتمكن فيه من العودة إلى مزاولة الكتابة عن حكايات الوطن ، وعن الإنسان وأشواقه للحق والعدالة ، بالنور .. والظلال .. والأغنيات .

* * *




أحدهم قال لي مرة مازحا :
- .. سجِّل "سيرتك" بيدك قبل أن تمتد إليها أيدي الآخرين .. فهناك من يستهويهم ويشغلهم "سيرة الناس".. والعبث بها !

وآخر كتب يقول :
"أسخر من نفسي .. عندما أجد في ذلك سعادة لبعض الآخرين."
* * *


إستدراك ..


أرى ، وأنا أدرك أنني قد وقعت في "شرك" تدوين تجربتي مع حلم "السينما الفلسطينيه"، وبالتالي مع بعض أولي الأمر وأصحاب القرار الذين كان لهم بطبيعة الحال دورا أساسيا لا يمكن إغفاله (سلبا كان أو إيجابا) ، أرى أن لا أترك الفرصة تفوت دون أن أسجل هذه الخاطرة التي لا تخلو من طرافة :

فمن أمثالنا الفلسطينية الشعبية واحد يخطر ببالي ، فأبتسم ، أكثر من مرة في اليوم الواحد ، وذلك بينما أنا أحاول أن ألملم شتات الذكريات عن هذه "التجربة" أو تلك .
يقول هذا المثل الضاحك الباكي :

ولا أكذب من "شَابْ" تْغَرَّبْ .. إلا "ختيار" ماتت أجياله .

وليس غريبا ولا مستبعدا أن يمسّني هذا المثل .
ألم أقض ، حتى الآن ، أكثرمن خمسين سنة من عمري (شبابي وكهولتي وقدرا لا بأس به من سنوات الشيخوخة) في الغربة ، متنقلا من بلد إلى آخر ؟
وهأنا الآن ، بعد هذا العمر ، وأنا أستذكر وقائع أراها على جانب من الطرافة (إن لم يكن الأهمية) ، أكاد لا أسترجع تفاصيل واقعة منها وأتذكر أحد "أطرافها" إلا ووجدتني أتمتم بيني وبين نفسي :
- " فلان الفلاني" .. الله يرحمه !

ماذا أفعل ؟
هل أتراجع عن فكرة الكتابة ، حتى أتجنب الغمزات واللمزات التي (إذا ما قدرلسطوري هذه أن تتسرب للآخرين يوماً ما) سوف تضعني في مصاف الشباب اللي تغربوا .. أو الـ "ختياريه" اللي ماتت أجيالهم ؟
أم أواصل روايتي .. وليصدقني من يشاء .. وليغفر الله لمن يشاء ؟

هذا ، وأكرر بأن محاولتي هذه لن تتجاوز حدود تسجيل "سيرتي الذاتية" كأحد الذين ساهموا بإخلاص وبجهد متواضع في مسيرة "السينما الفلسطينية".. إذ ربما ، كما أسلفت ، يستعين بها من هوأقدر مني على كتابة تاريخها.

* * *


بدايــــــــــــــــــــــــــات ..

يعرف بعض المقربين فقط أن تفرغك للعمل في "منظمة التحرير" لم يكن محض صدفة ، ولا كان مجرد تحقيق لرغبة بعض المسئولين في تطوير "المؤسسه" ، كما جاء في نص الخطاب الموجه لـ "تلفزيون جمهورية مصرالعربية" طالبا إعارتك منه للعمل في دائرة "الإعلام الموحد" لمنظمة التحريرالفلسطينية في بيروت ، بل كان ذلك نتيجة لتخطيط مسبق .. استغرق منك العديد من السنوات .
هذا .. مع الإشارة إلى القناعة الراسخة لديك بأنك جزء لا يتجزأ من ذلك الكيان .
كانت البداية ( مع ما سبقها من مقدمات ) عندما شعرت أن وجودك للعمل في مصر قد استنفذ أغراضه . فلقد اكتسبت من الخبرة ، وقدمت من الأعمال ما سوف يؤهلك للمضي في تحقيق طموحاتك وأحلامك ، والتي سوف يأتي الحديث عنها بالتفصيل اللازم ، أو الإيجاز اللائق .
ويعرف البعض الآخر أن تركك لدراسة "الهندسة المعمارية"، بعد أن شارفت على نيل دبلومها ، وقرارك بالعودة إلى تلبية أشواقك الأولى ، والتحول إلى دراسة "السينما"، قد جاء نتيجة إدراك ووعي لأهمية دورها في مسيرة "الثورة" التي أخذ يقينك بالإنتماء إليها يتنامى ، والتي كنت تعرف أنها كانت تفتقر لمثل هذا السلاح الإعلامي الخطير .
كان قرارك لدراسة السينما قد واكب الخطوات الأولى لإنطلاقة الثورة نفسها .
وكنتَ تشعر، وتدرك ، أن المشوار طويــــــــــــــــــــل طويل .
كان ذلك في عام 1963 ، قرب نهاية فترة تدريبك الذي استمر لأكثر من عام في أحد المكاتب الهندسية في "فيينا"، استعدادا للتقدم بـ "مشروع الدبلوم" الذي سوف تتخرج به مهندسا معماريا من أكاديمية الفنون التطبيقية بفيينا .
كنتَ في ذلك الوقت رئيسا منتخبا لأول تجمع طلابي فلسطيني في النمسا، والمسمى في حينها "مكتب فلسطين"، ضمن رابطة الطلبة العرب هناك . وكان ذلك هو التمهيد لقيام فرع مستقل لاتحاد الطلبة الفلسطينيين في النمسا .
في ذلك الوقت المبكر، جاءتكم بيانات "فتـــح" الأولى لترد على تساؤلات كانت تؤرقكم ، أنتم الطلبة المغتربين .
و بدأ تفاعلكم يتجلى مع فكرة "الثورة" ..
كأنما كنتم تخضعون لظاهرة "التخاطر" مع روادها عن بعد .

* * *



صفحــــــــــــات قديمــــــــــــــــة ..


تعودتُ ، لفترات متقطعة ، متباعدة ، أن أدون خواطري ، كما اتفق ، كلما وجدت سبيلا إلى ذلك .
كما تعودت ، بين حين وآخر، أن أطل على بعض ما كتبت .
أجدني في بعض المرات أسخر من خواطر معينة ، فأتخلص من بعض الأوراق . وفي مرات أخرى ، أجدني متفقا مع تلك الخواطر فأحرص على تصنيف وعنونة ما تبقى لي من بعض الأوراق الأخرى ، ظنا ، أو تكهنا مني ، والله أعلم ، أنني سوف أجد لبعضها مكانا فيما أنا مقبل عليه الآن من مشروع الـ "تدوين".
وحسبي في ذلك الآن هو صديقي الإلكتروني الشهير بـِ"الحاسوب"॥ الذي اختصرالمستحيلات الثلاثة ** إلى مستحيلين فقط ، وغدا هو"الخلّ الوفي" ، الذي أثبت وجوده بجدارة ، وصارهو سجل خواطري و مستودع أسراري ، الذي لا يكل ولا يمل ، والذي أصبح وأمسى وبات وما برِح يستجيب لضربات أصابعي على أزراره ..فيقوم بتخزين أواستدعاء أو حذف أو إضافة أو تأجيل أو تعديل أوتقديم أوتأخير كلمات أوفقرات أوصفحات معينة ، مما سبق أن أودعتها فيه ، حسبما يعن لي .

_________________________________________
(**) كما قال الشاعر :
نُبِّئتُ أن المستحيل ثلاثة الغول والعنقاء والخِلّ الوفيّ


مثال ذلك ما يلي :

فيينا / النمسا .. الأربعاء 27/6/1962


نحن في بداية الإجازة الصيفية للعام الدراسي । ورسالة صديقي وزميل الدراسة النمساوي"يوهان" تقول أنه سيكون بانتظاري يوم الأحد ، 1/7/62 ، لأبدأ العمل في مطلع الأسبوع القادم ، حيث تعودت أن أقضي جزءا من إجازاتي في العمل كمتدرب .

في هذه المرة كنت قد عقدت النية على قضاء فترة طويلة بالتدريب في ذلك المكتب الهندسي، حيث يعمل "يوهان" أيضا. فلقد أنهيت إمتحاناتي النظرية كلها في أكاديمية الفنون التطبيقية بفيينا ، ولم يبق لي سوى التحضير لمشروع التخرج .. مشروع "الدبلوم" :
ذلك المبنى الذي سوف يقام على إحدى مشارف مدينتي ، "القدس"، يطل على تاريخها.. ويستمد منها طرازه المعماري .
يحتوي على مكتبة عامه للكتب، والمنشورات، والمطبوعات الدورية وغيرالدورية ، بمختلف أنواعها من كل أنحاء العالم .. وأخرى للتسجيلات الموسيقية بكل أشكالها .. وغيرهما للأفلام السينمائية .
صالة محاضرات .. وصالة عرض مسرحي .. وصالة عرض سينمائي ملحقة بالـ "سينماتيك".. وصالة"كونسيرت" للعروض الموسيقيه .. وصالة للقراءه .. وأخرى للإستماع .
عالم رحب .. يتسع لكل ما يمت للثقافة والرياضة العقلية والبدنية بصلة .. حلم .. سوف يتحقق يوما ما على أرض بلادي .
إنه (كان ولم يزل) حلمي في منامي .. ويقيني في يقظتي ..
مشروع مبنى "المركزالثقافي الفلسطيني" .

* * *


الحق أنني كنت على يقين من أن الهِرْ "شولتس" ما زال يرحب بعودتي للعمل متدربا في مكتبه الهندسي في أي وقت .
هوألماني مخضرم ، كان تعاطفه يوحي إلي بأنه يخجل من ماضيه. كان دائما يحاول أن يؤكد لي (وربما كان يحاول أن يؤكد ذلك لنفسه) أنه لم يكن سوى "مهندسا معماريا" مجندا في مجال عمله في عهد النازيه.
لم أطالبه بذلك، ولا أشعرته يوما ، في واحدة من جلساتنا ، أثناء عملي في مكتبه في الإجازات السابقة ، أنني أشك في براءته مما ينسب عادة لجيله من الألمان .
قال لي مرة ، أنني كنت سببا في إيقاظ أو تجدد معاناته من .. "عقدة الذنب" !
في البداية ، في إجازتي الصيفية قبل الماضية ، كان يظن أنني يهوديا من "إسرائيل" (!)
لقداختلطت الأمور لديهم . أصبحت فلسطين هي إسرائيل.. وإسرائيل هي فلسطين . ولم تمض أيام قليلة على اكتشافي هذا حتى أعدت الأمور إلى نصابها .
حاول تبرير جهله.
قال أن أوراقي تقول أنني من مواليد القدس ، وأن اسمي الثلاثي لم يرد فيه "محمد" أو"عبدالله" أو "مصطفى" (؟‍!(
والأهم من ذلك هو مظهري وسلوكي الأقرب ، في نظره ، لمظهر وسلوك الأوروبيين . ( كذا !)
ثم أكمل بأن المعلومات المتاحة كانت تفيد بأن فلسطين لم يكن فيها أحد عندما بدأت الهجرة اليهودية من أوروبا إليها .. سوى بعض قبائل البدو الرُّحَّل .
حدثته عن بلدي .. القدس العربية.. حيث ولدت .. في دارعتيقة ورثها والدي عن جده.. وما زال يحتفظ بالـ "كوشان" الذي يثبت ملكيته لها .
كأنه لم يصدق أذنيه .
- "ماذا تقول ؟!"
- أقول أن "إسرائيل" قامت على أنقاض 385 قرية عربية بعد أن دمرت وأزيلت عن سطح الأرض وأقاموا مكانها مستوطنات ابتكروا لها أسماء توراتية ، ذلك بعد أن طرد اليهود أهلها العرب قسرا وإرهابا. هذا من أصل 475 قرية عربية فلسطينية كانت قائمة قبل عام 1948.
أما المدن فما زالت تحكي تاريخها لمن يهمه أن يعرف التاريخ .
- معقول ؟!!

أخذت (كالعادة) أسرد إليه بعض الحقائق التاريخية التي حفظناها ، نحن معشرالطلبة الفلسطينيين المغتربين، عن ظهر قلب من فرط تردادها .. بما فيها من تواريخ .. وأرقام .. وإحصائيات .. وقرارات لا تعد ولا تحصى للأمم المتحدة ….......
قلت له، مثلا، أن "إسرائيل" هي، منذ بدء تاريخ الأمم ، البلدالوحيدة التي أوجدت بقرار . وهو قرار "الجمعية العامة للأمم المتحدة" رقم 181 الصادر في 2 نوفمبر 1947 والذي يقضي بتقسيم فلسطين (العربية أصلا و كُلاّ) إلى دولتين :
دولة يهودية.. وأخرى عربية.
وبناء عليه فقد تم إعلان قيام "دولة إسرائيل" في 15 مايو 1948 وتوالت إعترافات الدول "العظمى" بها . وتم قبول الدولة الوليدة عضوا في "الأمم المتحدة" ، في 11مايو 49 ( قبولا مشروطا بقيام الدولة العربية المذكورة في القرار 181 المذكور) ، لكن "الأمم المتحدة" غضت الطرف عن متابعة تنفيذ قراراتها حتى يومنا هذا .. وكأن قراراتها ، كما يقولون ، ليست إلا ذرّا للرماد في العيون .

كاد أن يتهمني بالكذب أو المبالغة عندما ذكرت له أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المعترف بها دوليا بدون أن يكون لها "دستورا" أو "حدودا" رسمية معلنة . وهي الدولة التي تعتبر نفسها دولة كل اليهود في العالم ، وهي ، بما تسميه "قانون العودة" ، تضمن لأي يهودي في أي مكان في العالم أن "يعود" إليها في الوقت الذي يريده ليحصل على جنسيتها ( مع الإحتفاظ بجنسيته الأصلية ) ويتمتع بكامل حقوق المواطنة من الدرجة الأولى . هذا.. بينما تعتبر الأقلية من المواطنين الأصليين ، أصحاب الأرض ، الذين ينتمون لفلسطين التاريخية مواطنين من الدرجة الثانية . أما الأغلبية ، وأنا شخصيا واحد منهم ، فهم لاجئون مشردون بالعنف وقوة السلاح الغربي .. محرومون من العودة إلى موطنهم المحتل فلسطين .
- "كفى! كفى! إن معلوماتنا تتناقض تماما مع ما تقول !"

ثم يضيف معتذرا :
- عفوا.. أنا أصدقك طبعا . ولكن يبدو أننا ، هنا ، كنا وما نزال فريسة لإعلام آخر.

كان يتساءل دائما عن سرغياب أجهزة الإعلام العربية وتقصيرها .. وعما إذا كان هناك "أجهزة" أصلاَ .
كان لا يمل من ترديد سؤاله الذي لا يخلو من سخرية واستنكار :
- هل تكفي الصدفة البحتة لمواطن أوروبي مثلي ، لكي يعرف ما يحل بكم وما يجري في هذه البقعة من العالم من ظلم ، أن تربطه علاقة شخصية بمواطن عربي فلسطيني مثلك ؟!

ثم أصبح الهر "شولتس" .. يتصيد الفرص ليدعوني ، بعد ساعات العمل ، لمشاركته في تناول "كأس" في مكتبه ، وهو يغمز لي مطمئنا بأن مكتبه لا يخلو من الـ ** Apfelsaft . ومن ثم يأخذ في استعراض ما تمكن من جمعه من المعلومات ، من مصادرأخرى "موثوق بها". وصار ينافسني في سرد الأدلة على تواطؤ الغرب مع الصهيونية .. وتواطؤ الصهيونية نفسها مع القوى النازية .. والإمبريالية .
وآخرها ، من منظوره الجديد ، مؤامرة العدوان الثلاثي عام 1956. وأذكر أنه كان يصرعلى لفت إنتباهي بإشاراته إلى محاولات أميريكا السافرة لخلافة أوروبا في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط .. ومن ثم العالم أجمع .
_________________________________________
(**) عصير التفاح .. المشروب الشعبي الشهير والخالي من الكحول .


كان لا يفتأ يؤكد لي أن أمريكا لن تترك "ناصر" يهنأ بانتصاراته وأنها
لن تسمح بانتشار فكره ، وسوف تعمل على خلق قناعة عند العرب بعدم جدوى التفكير بـ "الحلم العربي الكبير" أو التفكير بالقضاء على إسرائيل التي "وجدت لتبقى"، ولتبقي قادرة على أن تحافظ على المصالح الأمبريالية في المنطقة .

كان يحدثني عن "ناصر" بإعجاب شديد . ولم يُخف أن سر إعجابه هو وجه الشبه ، من منظورهم ، ومن دواعي استنكاري الشديد أيضا، بينه وبين "هتلر" ، الذي مازال هناك من يجهر بتمجيد جوانب معينة له ॥ وهو واحد منهم .وفاجأني في أحد المرات وهو يرفع كأسه قائلاً :
- ..سوف ننتصر في النهايه !

ذكرني بأخي "عابد" الذي كان لا يمل من ترديد قصائد صديقه الشاعر "صلاح جاهين" والتي كنت أطرب لسماعه وهو يردد في ختام إحداها " .. راح ننتصر في النهاية" !

لم يداخلني الشك يوما في أننا سننتصر، فقضيتنا عادلة . وشعبنا قد بدأ يتلمس طريقه ، ويبحث عن ذاته .. وأخذ يمعن في أمر تشكيل إرادته وأدواته .
لكن ما بال الهر "شولتس" يبالغ في محاولاته "إبراء الذمة" ؟
هل اتخذت عقدة الذنب لديه اتجاها آخر ؟
هل اكتشف أن ضحايا النازية ليسوا ، فقط ، هم من عانوا من سعير ما سُمّي بـ "أفران الغاز" .. وأن من ضحاياهم ، أيضا ، من يعانون مثلنا من جحيم "أفران" الغربة والتشريد خارج بلادهم المحتلة.. ومن الإضطهاد والقهر والإذلال في داخلها ؟

في الصيف الفائت ، عدت من "مكتب الأجانب" مكتئباً . وعندما عرف الهر "شولتس" ما حل بي ، بادرني :
- لن تغادرالبلاد ! وستبقى وتعمل .. حتى بدون "إذن عمل" أو
" تصريح إقامه".. وأما عن المسكن .. فسوف أتدبرالأمر بنفسي .
* * *

ما زلتَ تذكر ذلك اليوم .. وذلك الشاب الأشقر .. وهو يقلب "وثيقة" سفرك بين يديه . يتنقل بها من زميل إلى آخر في "مكتب الأجانب" .
أحدهم مط شفتيه في غير اهتمام ، وهو يردد :
- Staatenlos ..
(الإصطلاح يفيد: "غير معين الجنسية"، والترجمة الحرفية تعني : "بلا وطن" )
وآخرأومأ إليه - بعد أن رمقك بنظرة فاحصة من فوق نظاراته - بما معناه :
- و ما الذي يمنع ......؟!
وقال آخرٌ آخر (فهمتَ ذلك من إيماءاته أيضاً ) بحزم :
- القانون هو القانون !
عاد الشاب الأشقر .. جلس إلى مكتبه .
عاد يقلب وثيقة سفرك بين يديه .. يتصفحها .. يتفحصها .. ينظر إليك .. يدير قرص حامل الأختام مترددا ثم يتنهد. وأنت تنتظره في توقع ورجاء ، أن يقبض على الختم المنشود .
تتذكرعيون المقامرين (على شاشة السينما طبعا .. فأنّى لك مثل تلك الخبرات !) وهي تتركزعلى قرص "الروليت" أثناء دورانه .
رقم واحد معيّن .. هو مفتاح السعادة .
وبالنسبة لك .. ختم واحد معين هو مفتاح الفرج .
يكاد قرص حامل الأختام أن يتوقف .. فتعبث به يد الشاب الأشقر المتردد .. ليعود إلى الدوران من جديد قبل توقفه .
فجأة .. كمن اتخذ قرارا .. يبحث في وثيقة سفرك عن صفحة فارغه .
يقبض على أحد الأختام . وتشعر أنت بارتياح بالغ .
لا لأنك عرفت النتيجة .. ولكن لأنك سئمت الإنتظار .
طز .. إذا لم يكن هو الختم المطلوب .. فليست هي المرة الأولى التي تتعرض فيها لمشاكل بالنسبة للسفر أو للإقامة في هذا البلد أو ذاك . فما أنت غير ذلك .. الفلسطيني المشرد.
طخ !
صوت ارتطام الختم بصفحة الوثيقه يعيدك من شرودك. تصوب نظرك إلى الصفحة . ما زالت فارغه .
ينظر إليك الشاب بعينين لا تخلوان من الإعتذار .. مع شبح ابتسامة فيها قدرغير قليل من السخريه ( في مثل هذه الحالات يعفى المحكوم عليه بالإعدام من تنفيذ الحكم ) .
لكن الشاب يفتح "ختّامة" حمراء اللون ، ويلون الختم بحبرها . وسرعان ما تتلوث صفحة الوثيقة بختم أحمر .
قرأتَ العبارة من بعيد .. في اللحظة ما بين ارتفاع الختم عن الصفحة وتغطيتها باليد الأخرى بالنشافه !
"يغادر ألمانيا الإتحاديه خلال 24 ساعه "

وشيعك الشاب الأشقر بنظرة لا تخلو من الرقة .. أو قل العطف .. أو الشفقة .
وعدتَ إلى مقرعملك مكتئباً . وكانت فرصة العمر بالنسبة للهر"شولتس" لكي يظهر تعاطفه مع الشعب الفلسطيني المشرد .. ممثلا في شخصك .

* * *


اليوم الأربعاء .. وغدا الخميس .. وبعدغد الجمعة .. ثم يأتي يوم السبت ومن بعده يوم الأحد . لمَ كل هذا الإنتظار ؟
وفوق هذا وذاك .. فقد رتبت صديقتي أمورها لتقضي عطلة "نهاية الأسبوع" مع عائلتها في بيتهم الريفي .. علما منها بأنني على سفر .
مررت عليها في مقر عملها . طلبت منها أن تتصل بـ "يوهان" لتخبره بأنني سأستقل قطار "فيينا - فوبرتال" الليلي في ذلك اليوم .. الأربعاء .

* * *






فوبرتال / ألمانيا الغربيه .. الخميس 28/6/62


تعودنا .. أو تعلمنا أن نعبرالحدود التي لا يجوز لنا عبورها - نحن معشر الفلسطينيين الـ "غير معيّني الجنسيه"- بطريقة أو بأخرى . ومنها قطارالليل .. بما يقتضيه الأمر من حِـيَل ( ! )
واستقبلني صديقي "يوهان" مضطربا .. محاولا أن يخفي استياءه. فقد استأجرلي نفس الغرفة التي كنت أسكنها في الصيف الفائت ، في بيت أحد معارف الهر "شولتس"، ولكن إبتداء من يوم الأحد المقبل ، حسب اتفاقنا. وعندما فوجيء بنبأ قدومي قبل موعدي ، قضى نهاره في البحث لي عن مسكن مؤقت للأيام الثلاثة التي لم تكن في حسبانه .
ولم يكن هناك من حل سوى أن أقتسم المسكن مع ذلك الرجل .. "فولكر" .
بادرني بلكنة ألمانية شمالية ريفيه ، وبصوت عريض لا يتناسب مع حجمه الضئيل :
- أنا مغترب مثلك ....
لم أدرك في البداية أن بلدته "بوتسدام" تقع في ألمانيا "الشرقية" . وحرت في أمرهذا المغترب في بلده . كنت حتى ذلك الوقت أظن أن شعورالمرء بالإغتراب في وطنه يقتصرعلينا .. نحن معشرالعرب .
ثم قلت لنفسي :
مالي أنا وماله ! ثلاثة أيام ، أوعلى الأصح ، ثلاث ليال ثم تكون لي غرفتي .. وغربتي .

هناك أشخاص تشعر برغبة في التحدث إليهم أو بإنشاء صداقة معهم إذا ما التقيت بأحدهم في قطار أو رحلة أو أي ظرف عابر . لم يكن هو أحدهم . وإن كان يبدو لي مهذباً طيباً . إلا أنه أيقظ في داخلي ، دون أن يقصد ، تلك المشاعر المرهقة .. التي كنت أتحايل لإطالة غفوتها .
كان الوقت مناسبا لأن يتمنى كل منا للآخر ليلة سعيده .
بدأت أنا متعللاً برحلة القطار الطويلة المتعبه.
صب لنفسه كأسا من النبيذ .. ولوح لي بالزجاجة :
- نبيذ فرنسي فاخر.. معتق من كروم الجزائر .. من عندكم .
ثم أردف :
- .. كنت أسمع دائما أنه من أجود أنواع النبيذ في العالم . والآن تحققت من ذلك بالتجربة. وسمعت أيضا أنه لا يباع في الجزائر . جرّب !
ثم استدرك :
- "آخ .. سو" .. (Ach so) * .. فأنت إذن "محمداني" ** !
_________________________________________
(*) تعبير سائد عن الدهشة .
(**) لفظ Mohamedaner يراد به تعريف المسلم .. وينطوي على شئ من الاستخفاف والتعالي .


تناول جرعة شرهة ثم أكمل :
- ضحكواعليكم باسم الدين.. وعلينا باسم الشيوعيه . فعندنا ، هناك ،
مثلكم تماما .. خيراتنا ليست لنا . نعمل ونكدح من أجل الغير .
لقد ولّى ذلك الزمن بالنسبة لي . أنا الآن أنعم بنتيجة عملي .. وبحريتي .
هل تعرف معنى الحريه ؟
طبعا تعرف .. لأن الفرنسيين يتمتعون بالحرية في بلادكم ......

سامحك الله يا صديقي "يوهان" . ألا يكفيني ، عقابا لي على عدم احترامي للمواعيد ، تلك الليالي الثلاثة التي سأقضيها في ذلك القبو ؟ ‍!
لا بأس في نقاش أو حديث حول معنى الحرية بين حين وآخر . ولكن ليس في مثل هذا الوقت .. وبعد رحلة قطار استغرقت وقتا طويلا.. قضيت منه جزءا لا بأس به.. حبيساً.. على كرسي "التواليت" .
تلك هي الحيلة التي تفتق عنها ذهن الكثيرين من زملائي في "وثيقة السفر" . فقبل أن يقترب القطار من مدينة "سالتزبورج" ، التي تقع على الحدود في الطريق من النمسا إلى ألمانيا الإتحادية (الغربيه) ، لا بد من الإختفاء عن أعين رجال بوليس الحدود . فعندما يتهيأ القطار للوقوف .. لتغييرالقاطرة .. والإجراءات الحدودية وما إلى ذلك .. تبدأ أطول ربع ساعة في التاريخ ، لما فيها من اضطراب .. وتوتر .. وخوف .
الحقيقة أن الإجراءات المذكورة لا تعني شيئا بالنسبة للأوروبيين . فهي إجراءات شكلية. أما الأجنبي ، فلا بد من حصوله على تأشيرة دخول ، أو أن يحتوي "جواز سفره" على تصريح للإقامة في إحدى الدول الأوروبيه .
صحيح أنه ، في بعض الأحيان ، يختلط الأمر على رجل الحدود الألماني فيتعامل مع "الوثيقة" التي أحملها وكـأنها "جواز سفر" حقيقي . خصوصا بعد أن اشتريت من القاهرة حافظة جلدية ، خضراء اللون ، أودعتها وثيقتي ( ذات الغلاف المميز بلونه الأزرق ) مصنوعة خصيصا لجوازات السفرالمصرية ، الخضراء اللون ، ومطبوع عليها بماء الذهب ما يفيد بأنها تحتوي على "جواز سفر مصري" ..
لكن هيهات أن "تسلم الجره في كل مره ".

لم يلبث مضيفي أن أقر بأنني أبدو متعَباً ، ويحسن أن أخلد للراحة والنوم .
ألم أقل أنه يبدو .. طيبـاً ؟ لقد أطلق سراحي بالرغم من أنه كان يبدو تواقا للحديث ، ولمستمع جيد مثلي . لكنه حين أضاف أن للحديث بقية ، وأنه يعرف أنني سأمكث معه في نفس المكان ليال ثلاث .. عرفت أنه لم يتركني رأفة بحالي .. فهو يريدني في الغد يقظا غير متعب .
وبالرغم من أنني احتجت لبعض الوقت لكي أتكيف مع سريري الغريب - كما هو الحال مع الكثيرين في مثل هذه الحالات - وأنني ،
بينما كان النعاس يغالبني ، كنت أشعر بالسيد الهارب من "بوتسدام" - الشرقية لينعم بالحرية في "فوبرتال" - الغربية .. ما زال في أوج نشاطه.. يفتح زجاجة جديدة .. يروح ويجيء .. يعبث بآلة موسيقية ثم لا يلبث أن يتركها .. ليعبث في محتويات أدراج الدولاب .
بالرغم من ذلك .. استيقظ الرجل مبكرا . و بالرغم من أنه كان يتحرك بمنتهى الحرص والهدوء .. إلا أنني صحوت من نومي أنا الآخر . ولم يهدأ لي بال حتى سمعته يضع المفتاح في قفل الباب من الخارج ليقفله بحرص .. بدلا من أن يصفقه فيزعجني . ونمت نوما عميقا .

* * *









فوبرتال .. الجمعه 29/6/62

عندما صحوت .. استغرقت وقتا امتد لبضع لحظات حتى عرفت أين أنا . واسترعى انتباهي أن البيت القبو - على قِدمه - كان نظيفا ومرتبا. كما استرعى انتباهي - أيضا- شئ آخر.. آلة موسيقية .. "أكورديون" .. بحجم لم أر له مثيلا من قبل . جديدة .. براقة .. لها أجزاء معدنية مذهبة مفضضة بريقها يخطف الأبصار .
إن من يحرص على امتلاك آلة كهذه لا بد أن يكون عازفا بارعا .
خطر لي أيضا ، وأيقنت ، أن العازف الذي يمتلك مثل هذه الآلة ولا يستعملها حرصا على راحة شريكه في المسكن لا بد وأن يكون إنسانا مهذبا.
شيء آخر شد انتباهي في ذلك الصباح ، قبل أن أغادر البيت القبو .. صورة فوتوغرافية لفتاة لا تخلو من حسن .. في الرابعة أو الخامسة عشر من عمرها .. في إطار معدني براق يخطف الأبصار أيضا .
لم أتعجل . استغرقت وقتا في الإستعداد للخروج . فاليوم الجمعة ، ومن الطبيعي أن لاأبدأ عملي إلا في بداية الأسبوع القادم ، يوم الإثنين .

كان ترحيب المهندس الألماني بي كما توقعته . وأكثر من ذلك .. أنه أصرعلى أن أبدأ عملي في الحال . وهذه تضحية لا يقوم بها أرباب العمل عادة . فمعنى ذلك أنني سأتمتع بإجازة أسبوعية مدفوعة الأجر بالكامل .. لقاء عمل نصف يومي الجمعة والسبت فقط من الأسبوع كله. وكان ذلك مبعث دهشة صديقي "يوهان"، الذي يعمل في نفس المكتب منذ سنتين ، بصفة دائمة . فلقد تعود على أن يُخصم من راتبه أجر مجموع الدقائق التي تنقص من ساعات عمله إذا تأخر لسبب أو لآخر .

قال لي الهر "شولتس" مرة :
- لقد دفعنا دم قلوبنا .. وما زلنا ندفع مئات الملايين سنويا ثمنا لصكوك الغفران .. أو ما يقال له "التعويضات الألمانيه" لليهود . ولم نكن نعرف أننا ندفع هذه الملايين لتساهم في تدمير شعب آخر.

أيقنت الآن أن ألمانيا الإتحادية (الغربية)، ممثلة في شخص الهرْ "شولتس" ، قد ثابت إلى رشدها .. وأنها ربما تفكر في تحويل التعويضات إلى الشعب الفلسطيني .. ممثلا في شخصي .
ألايكفي ، دليلا على ذلك ، إعفائي من قبل السيد الكريم - كما كنت أتوقع- من مشقة المحاولة اليائسة للحصول على تصريح الإقامة والعمل منذ البداية . وهذا ما راهنت عليه بتسللي إلى ألمانيا ، فوثيقة سفري ما زالت ، منذ الصيف الفائت ، مزدانة بالختم الأحمر ذو الإقامة المحددة بالأربع وعشرين ساعه .
- هل تعرف ؟

قالها وهو يقترب مني بقدر ما تسمح المسافة بين مقعدينا ، ليتخذ وضعا يكون فيه الكلام ، كما يبدو له ، أكثر جدية . وأكمل بما يشبه الهمس ، ليوهمني بأنه سيدلي بسر خطير لا يليق بأحد غيرنا أن يسمعه :
- تلك الأكذوبة التاريخية الكبرى .. "الهولوكوست" .. والستة ملايين يهودي .. وأفران الغاز ..

ثم اعتدل في جلسته وأكمل مزهوا واثقا من معلوماته :
- أولا .. هناك مبالغة هائلة في الرقم . وحسب تقارير المنظمات اليهودية نفسها ، كان عدد يهود أوروبا كلها في زمن الرايخ الثالث لا يتجاوز الملايين الثلاثة .
ثانيا .. قدِّر عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية كلها في حينه بحوالي الخمسين مليون ، منهم ما لا يزيد عن المليون الواحد من اليهود . فكيف تقوم الدنيا ولا تقعد من أجل هذا المليون !؟
ولا يستفيق الضمير العالمي إلا من أجل الضحايا اليهود !
أليست هذه هي "العنصرية" بعينها ؟
ثالثا .. معسكرات الإعتقال .. كانت مرحلة لتنفيذ خطة "ترحيل" اليهود إلى "أماكن أخرى" .

لم تغب عن فطنته ما تضمنته ابتسامتي من مرارة إزاء ذكر كلمتي الـ "ترانسفير" و"الأماكن الأخرى". أطرق برهة كأنه يعبر عن إعتذاره ، ثم واصل حديثه :
- .. رابعا .. وهذا هو الأهم .. لم يكن هناك ما يسمونه بغرف الغاز بالمعنى الذي يروِّجونه . بل كانت الظروف الناتجة عن الحرب الطويلة تستدعي وجود محارق لجثث الموتى بشكل عام نتيجة الغارات .. و"التيفوس" وغيره من الأمراض التي تفشت في معسكرات الإعتقال بالذات وبشكل خاص ....
ثم إنني قبل كل شيء أحب أن أتساءل : لماذا لم يسمع العالم شيئا عن "الهولوكوست" طوال سنوات الحرب الستة ؟!
أم أن إبادة الملايين الستة قد تمت في الأيام الأخيرة للحرب ؟!
"الهولوكوست"، يا عزيزي ، هو السلاح المبتكرلصرف النقد عن إسرائيل وأغراضها ونواياها . إنه أداة لابتزازنا .**
___________________________________
(**) هناك شخصيات هامة مؤثرة قد قامت بتدوين شهادتها و تجربتها في الحرب العالمية الثانية .. وتم نشرها (من عام 1948- 59) مثل :
البريطاني " تشيرتشل" في موسوعته "الحرب العالمية الثانية" بأجزاءها الستة وصفحاتها الـ 4448 و..
الفرنسي"ديجول" في"ذكريات الحرب" بأجزاءه الثلاثة وصفحاتها الـ2054 و ..
الأميريكي "أيزنهاور" في في كتابه "حملة أوروبا" ذو الـ 559 صفحة ..
هذه الوثائق التي تبلغ في مجموعها 7061 صفحة لم يرد فيها شيئا عن "غرف الغاز النازية" .. أو "جرائم القتل الجماعي لليهود" .. أو ضحايا "الهولوكوست" التي أشاعوا أنها بلغت الملايين الستة !!!!!


ولم ينس أن يهمس لي مؤكدا أن ماقاله هي الحقيقة التي لايجرؤ الكثيرين على ذكرها .. ويحسن أن أحتفظ لنفسي بمصدرها (!)
وفي مرة أخرى حكى لي بتفصيل ينم عن قراءة طازجة ، كيف تورطت ألمانيا بقصة التعويضات . فبعد إعلان دولة إسرائيل عام 1948 وتدفق المهاجرين الجدد إليها ، مما أصاب ميزانية الدولة الجديدة بالعجز، بالرغم مما تلقوه من مساعدات مالية من يهود العالم ، أوغير اليهود ، أبرق رئيس الوزراء الإسرائيلي ، "بن جوريون" ، لـرئيس المؤتمراليهودي العالمي والحركة الصهيونية
العالمية في ألمانيا آنذاك ، "ناحوم جولدمان" ، الذي كان يتابع محاكمات "نورنبيرج" لمجرمي الحرب ، يرجوه أن يقوم بتدبير أي مبلغ على وجه السرعة للحاجة الماسة إليه .
عندها طرأت لـ "جولدمان" فكرة أن يطالب "أديناور" ، المستشار الألماني في ذلك الوقت ، أن تغطي ألمانيا مصاريف إعادة توطين اليهود الألمان في إسرائيل ، فوافق "أديناور" على أن تدفع ألمانيا مبلغ ثلاثة آلاف دولار عن كل رأس (!)
ثم اكتشف "أديناور" بعدها أن ألمانيا ، بذلك ، قد التزمت بدفع مبلغ وقدره 1,5 بليون دولار ( بالباء) . فقد بلغ عدد اليهود الألمان في إسرائيل ، في حينها ، حوالي نصف المليون **.

_________________________________________
(**) عندما حاول "أديناور" ، عام 1952، عقد إتفاقية بين ألمانيا وإسرائيل وذلك بهدف تنظيم وتقنين عملية دفع التعويضات الألمانية لليهود ، تعرض المستشار الألماني لمحاولة إغتيال من تدبير "مناحيم بيجين" الذي كان يتزعم حزب "حيروت" . وظلت "إسرائيل" ، نتيجة لذلك ، تبتز التعويضات بدون أي قيود أو معايير.


* * *


في المساء ، عدت إلى البيت القبو بعد أن أنجزت من العمل ما لم يكن أحد يتوقع مني إنجازه .. كي أثبت للسيد الكريم أنني أهل لكرمه وثقته بي .
رآني "فولكر" مجهداً. فأراد أن يخفف عني بطريقته الخاصه . وأصر على أن يسقيني كأسا من النبيذ الفرنسي الفاخر .. المعتق ، كما قال ، من كروم الجزائر .
تنحنحت آملا أن أمسك بدفة الحديث .. قبل أن يبدأ هو باستكمال حديثه عن الحريه.. قلت له :
- أنا فلسطيني .. ولم أحظ بعد بزيارة الجزائر ..

لم يبد عليه أي اهتمام بما قلت . بل أردف بسرعه :
- لا بأس! (واصطلاح آخر معناه بالتقريب.. كلكم في الهمِّ شرق )*
________________________________________
(*) الإصطلاح الألماني المشار إليه هو Alles Seife ومعناه الحرفي :
"كلّه صابون" ! ويبدو أن هناك علاقة بينه وبين المثل القائل : " كلّه عند العرب صابون" !


آثرت أن أرجيء سرد "حكايتي" لحين آخرأكثر ملاءمة .. فابتسمت له مجاملا .. فإذا به قد رفع كأسه في وجهي وأنشأ يقول :
- كأسك يا صديقي .. فلنشرب نخب الحرية و ....

قاطعته بضجر مغلف بمحاولة يائسة لأن أبدو مرحا :
- عن أي حرية تتحدث يا رجل ؟!

قال وكأنه ينتظر سؤالي منذ دهر:
- عن حرية الإنسان في أن يختار العمل الذي يريده .. وأن يعيش في المكان الذي يختاره ..
ثم أضاف باستدراك :
- .. لا داعي لأن نتحدث عن حرية الرأي .. ولنترك ذلك للمثقفين !

(كأنما أصابت تلك الإضافة كبريائي في مقتل . أخذت أتساءل بيني وبين نفسي عن ذلك الشيء الذي يميزالمثقفين في مظهرهم ويفتقر مظهري إليه.. مما جعلني أتعرض لمثل هذه الإهانة التي لم يقصدها صاحبنا. )
لاحظ "فولكر" شرودي وانقباضي .. فلكزني بيده التي تحمل الكأس
وتابع حديثه :
- خذ مثلاً .. أنت ! ألم تأت إلى ألمانيا الإتحادية لتعمل ؟
ألم تأت في الوقت الذي حددته أنت .. وإلى المكان الذي تريده أنت .. و..

حاولت بيني وبين نفسي أن أترجم المثل الفلسطيني المعروف "اللي يعرف يعرف .. واللي ما يعرف يقول كف عدس" إلى اللغة الألمانية فباءت محاولتي بالفشل .
ثم فكرت أن أسبقه و أتشبث بدفة الحديث .. وأروي له "حكايتي" التي أحفظها عن ظهر قلب ، كما أحفظ نشيد "موطني" الجميل الذي كنا ننشده صغاراً كل صباح قبل أن ندخل إلى "الصفوف" في مدرستنا في القدس ، التي تركتها صبيا مهاجرا ، برفقة أخي "عابد" ، على ظهر حمار من خلال طرق جانبية جبلية وعرة إلى "بيت لحم" ومنها إلى"الخليل" ثم إلى "غزه" . ثم كيف ساقتني الظروف ، بعد أن أنهيت دراستي الثانوية ، إلى السعودية للعمل فيها - شأن الكثيرين - لكي أتيح لنفسي فرصة التعليم العالي . لكنني ترددت ، و رأيت أن أبدأ بالإجابة - مسبقاً- على الأسئلة التقليدية ، التي تدورعادة في خلد أهل هذه القارة النائية ، عن وسائل المواصلات في بلادنا .. غير الجمال والحمير .. وأن أوضح له - على سبيل المثال- أن سبب استعمالنا للحمار كوسيلة للإنتقال هو قطع الطرق الرئيسية ، التي تسير فيها السيارات ، بواسطة العصابات الصهيونية المدججة بأنواع السلاح البريطاني والتشيكي و الأميريكي .. والمسددة فواتيرها بالمارك الألماني .
ثم عدلت عن تلك الفكرة ، و رأيت أن أنتقل مباشرة إلى الحديث الذي تفرضه ثقافة غالبيتهم ومعلوماتهم عن ذلك "الشرق" الذي ابتكروه وأضفوا عليه ما يروق لهم أن يروه ، والمستقاة من ترجمات بعض "المستشرقين الأوروبيين" المحرفة لـِ "ألف ليله وليله" أو مشاهداتهم للأفلام المفبركة عن أمراء الصحراء أو شيوخ البترول أو "الليالي العربيه" ، أو من إقبالهم على قراءة سلسلة روايات الكاتب الألماني الأفاق "كارل ماي" Karl May الشهيرة ، التي تصف رحلاته المتعددة إلى الشرق ، والتي قام بتأليفها خلال السنوات الطويلة التي
قضاها في السجن لأسباب أخلاقية । **

_______________________________________________
(**) بلغ عدد مؤلفات "كارل ماي" عن رحلاته 74 كتابا ! هذا علما بأن سجلاته تقول بأنه لم يغادر بلده قط . شأنه في ذلك شأن الكثير من "المستشرقين" .


ثم لا بد ، بعد ذلك أو قبله ، من الإجابة على السؤال عن زوجات أبي الأربعه .. غير الجواري والحريم . وعن تاريخ البنطال الذي أرتديه . ولا بأس من أن أؤكد أن أبي كان يرتدي بنطالا هوالآخر. وأن أختي كانت تذهب إلى المدرسة .. وبدون حجاب .
وعندما تزوجت .. لم يتقاض أبي ثمنها . وما إلى ذلك من المعلومات التي عادة ما يحرصون على معرفتها .
إلا أنني وجدت في نفسي ميلاً لأن أترك لمضيفي الحرية في الحديث حتى لا يتهمني أنا الآخر باضطهاده ، كما اضطهده زعيمه "فالترأولبريخت" من قبل ، حسب روايته هو. فأنا أرى كيف يحرقه الشوق إلى اللحظة التي يمارس فيها حريته في الحديث .. أو حديثه عن الحريه .
ثلاث سنوات مرت .. منذ أن تمكن صاحبنا " فولكر" من الهروب من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربيه .. قضاها عاملا في مصنع كبير .. يتيح له العمل لساعات إضافية .. فيحقق كسبا أكبر.
جدير بالذكر أنه ، في بداية الخمسينات ، كانت خمسون عاما قد مرت على وفاة "كارل ماي" حيث تكون حقوق المؤلف وورثته قد سقطت ومن حيث تصبح مؤلفاته كلها مشاعا تستثمره دور النشر المختلفة وتجني من نشرها الأرباح .
على أنه ، إحقاقا للحقيقة ، لا بد من ذكر ما تميز به "الإستشراق الألماني" من ابتعاد عن الأهداف السياسية أو الإستعمارية في الشرق ، حيث أنه لم يكن لألمانيا مستعمرات في العالم العربي (أم كان ذلك ، يا ترى ، لأن الفرنسيين والإنجليز لم يتركوا لهم مجالا لذلك) . ولا بد أيضا من ذكر ما تميزت به كتابات بعض المستشرقين الألمان ("جوته" و "سيغريد هونكه" على سبيل المثال لا الحصر) من إنصاف يصل إلى حد الإشادة بالحضارة العربية الرائدة .. ذات يوم .
وهو يسكن في هذا القبو ليحقق وفراً أكثر . ويبدو أنه قضى تلك السنوات الثلاث يعمل بدون انقطاع .. فلم يجد في وقته متسعا لأن يجد له صديقا يتحدث إليه . وربما لم يجد الآخرون في وقتهم متسع لأن يتحدثوا إليه. فالوقت من ذهب .. كما يقول الألمان أنفسهم . لكن الفرصة جاءته - كما يبدو- إلى عقر داره .
وها هو يتشبث بها ويمضي في حديثه إلي :
- أكثر من عشرسنوات .. وأنا أعمل في المصنع في "بوتسدام" . زوجتي تعمل أيضا . ولم نستطع توفير "مارك" واحد .
لم أجرؤ حتى على التفكير في شراء دراجة لإبنتي . ظلت تحلم بها منذ أن كان عمرها ثلاث سنوات . واليوم أصبح عمرها ثلاثة عشر عاما .
البنات في عمرها .. هنا .. يملكن سيارات . ونحن .. هناك .. ما زلنا في عصر الإقطاع . الفارق الوحيد أن الإقطاعي هو الدوله . ونحن عبيد عندها . نعمل لكي نملأ بطوننا فقط . هذا هو الطموح الوحيد المتاح لنا . أما هم .. فيملأون جيوبهم ....

استوقفه شرودي .
كان يبدو لي أنه طيب مهذب ، فهل يتعارض ذلك مع الإنطباع الجديد بأنه .. أفاق ؟ ربما لاحظ أيضا عدم إكتراثي بل واستنكاري الصامت لما يحكيه . فالبلدان الإشتراكية تتمتع في عالمنا بمكانة محترمة . وهي التي كانت مثلنا الأعلى لما نصبو إليه من نظم تضمن لنا العدالة الإجتماعية والتقدم والرفاهية.

تذكرت بعض الذين بذلوا حياتهم دفاعا عن الإشتراكية في بلادنا . وآخرين دفعوا ، وما زالوا (حتى هذا الحين) يدفعون سنوات من شبابهم في السجون لنفس السبب . وعدت لأتذكر شقيقي ومعلمي "عابد" وهو لا يكف عن ترديد قصائد صديقه "صلاح جاهين" التي كان يحفظها عن ظهر قلب :
يا "معين" يا صوت الضحايا ..
إرعد بصوتك معايا ..
إرعب عدوي وعدوك ..
راح ننتصر في النهايه .. (**)
________________________________________
(**) الشاعر الفلسطيني "معين بسيسو" هو القائل أيضا :
فالقول ليس ما يقوله السلطان والأمير / وليس تلك الضحكة التي يبيعها المهرج الكبير.. للمهرج الصغير/ فأنت إن نطقت مت / وإن سكت مت / قلها ومت .


أفقت من شرودي على حركة فجائية لصاحبنا "فولكر" .. عندما نهض بسرعة وفتح "الثلاجة" التي لم تسترع انتباهي قبل ذلك لسبب لا أعرفه ، بالرغم من أن لها أجزاء معدنية بريقها يخطف الأبصار . ثم أخذ (بطريقة لا تخلو من نوايا الإستعراض) يقلِّب ما في جوفها من أشياء مغلفة بورق القصدير البراق .. وأخرى بأكياس شفافة .. وغيرها محفوظة في علب معدنية ملونة أنيقه . ثم .. كمن اتخذ قرارا هاما .. أخرج زجاجة "شمبانيا" ألمانية - كما أفاد- وقام بفتحها باستمتاع بالغ ( وبمهارة لم أرها من قبل إلا على شاشة السينما ) . كل ذلك وهو يواصل حديثا غير مترابط .. يقارن به في النهاية بين "هنــــا" .. و"هنـــــــــاك" .
صحيح أنني أتمتع بما يسمونه "فضيلة" القدرة على الإستماع . ولكن هل يتناقض ذلك مع احتمال اختلافي معه في الرأي ؟
ثم .. ألم يحن الوقت الذي أجاهر فيه برأيي فيه وبأقواله .. حتى لو أدى ذلك إلى إغضابه ؟

لكنني تذكرت تعليمات رئيسي الهر "شولتس" المشددة لي ، وهو الذي يتحمل مسئولية عملي في مكتبه بدون "تصريح العمل" أو"تصريح الإقامه" من السلطات الألمانيه ، بأن "أمشي بجوار الحائط" .. ولا أعرض نفسي لما قد يستوجب مساءلتي عن أوراقي الثبوتية .. إلخ


إن مجرد "وجودي" في البلاد هو وجود غير شرعي .. وغيرمصرح به . فما بالك لو اتهِمتُ في " ألمانيا الغربية" بمحاولة إقناع لاجئ من "ألمانيا الشرقية" بالعودة إلى موطنه الأصلي .. أو بالمشاجرة مع ذلك المواطن دفاعا عن الإشتراكيه .
تذكرت أقوال أجدادنا الحكماء عن كلام الفضة وسكوت الذهب . فالتزمت السكوت لفترة .
ثم خرجت عن طوري وتناسيت أجدادي .. وتنحنحت عدة مرات معلنا رغبتي في المشاركة في الحديث أو إبداء الرأي فيما يقوله صاحبنا .
لكن "فولكر" كان لا يتورع عن قمعي بأدب . يمهلني لكي يصب لنفسه كأسا أو ليتفقد كأسي .. أو يقدم لي "الكافيار الألماني" المشهور .. والذي يأتي - حسب روايته وتواضعا منه- مباشرة بعد الكافيار الروسي .. أو يريني صورته بين أفراد عائلته بالمعطف الوحيد الذي كان يمتلكه . ثم يفتح لي دولاب ملابسه - بانفعال شديد- ويأخذ في عد البدل التي يمتلكها الآن ، ثم يعيد الإشارة إلى المعاطف الأربعة الجديدة .
معطف لكل فصل من فصول السنة الأربعة .. كما يبدو!
لاحظ "فولكر" شرودي مرة أخرى . كنت في هذه المرة أتساءل ، بيني وبين نفسي ، عن المناسبات التي تستدعي إمتلاكه لكل هذه الملابس ، وهوالذي لا يخرج من قبوه إلا لعمله . وهاهو يقضي يوم السبت ، وليلة الأحد ، وحيدا مع زجاجاته .
لكزني بيده التي تحمل الكأس ونهض ، وهو يمهلني ، ليريني شيئا لم يلبث أن نسيه عندما استوقفته الصورة ذات الإطار اللامع .
تأمل الصورة . تناولها واحتضنها بحنان .
كان أكثر صدقا عندما تحولت ثرثرته إلى الحديث عن ابنته .. وشوقه إليها .
لقد تركها طفلة في العاشرة .. وهي الآن صبية في الثالثة عشره . ولو أنها تبدو في الصورة أكبر سنّا بقليل .
أخذ - ولأول مرة - يحدثني عن ذكريات جميله .
تأسرني حكايات الوطن .. أي وطن .
تمنيت أن يستمر في حديثه عن الأهل .. والبيت وحديقته .. وأزهاره وأشجاره وطيوره .
(لاحت لي صور بيتنا في القدس .. أزهاره وشجيراته التي كانت تنمو في البراميل الخشبية والأصص المنتشرة في "وسط الدار" .. وأسراب طيور السنونو وهي تحلق بحرية في سمائه ..)
نهض مرة أخرى - وهو يمهلني- ليريني صورة كبيرة الحجم لكل أفراد عائلته .. في حديقة البيت .. وهو يتوسطهم محتضنا آلة "أكورديون" قديمه .. قال أنه ورثها عن أبيه .
لكنه عاد .. وأخرجني عن طوري عندما تفوه بجملة تحمل معنى حرمانه من إبنته .
قلت بسرعة أذهلته :
- وما الذي أرغمك على ... ؟

قاطعني بسرعة أذهلتني ، وكأنما كان ينتظر سؤالي هذا ، ليفصح عما كان يرى أنه سر معاناته :
- بل هربت من أجل ابنتي . من أجل أن أستطيع أن أحقق لها بعض الأمنيات . فأنا أرسل لها ولأمها - كلما أمكنني ذلك- ألبسة .. وهدايا .. وأشياء أخرى كانت لا تجرؤ أن تحلم بها مجرد حلم .

وأخذ يعدد لي مرة أخرى ما استطاع امتلاكه خلال ثلاث سنوات أو أقل . وهو، والحق يقال ، كثير وفير . وعدت أتساءل بيني وبين نفسي عن موطن الخلل . أهو "فولكر" نفسه .. أم النظام الذي لم يستطع خلال عشر سنوات أن يكفل لابنته دراجة .. أو "بنطلون جينز" (؟!)
فكرت .. هل يمكن لإنسان ان يؤمن حقا أن بمقدوره أن يكون حرا وهو في الحقيقة سجينا داخل نفسه ؟!
أسكتني مرة أخرى قبل أن أنطق . بالرغم من أنه لم يكن في نيتي الإعتراض أو الرد أو السؤال . كنت أريده فقط أن يملأ لي كأسي الفارغه ، علّي أن أنسى وصايا رئيسي في العمل .
أعترف بأنني ، في لحظة ما ، قد استملحت فكرة اللجوء إلى بلد مثل ألمانيا لكي أنعم بالحرية فيها . لكنني تذكرت ، وإن لم أكن قد نسيت تماما ، أنني لكي يتسنى لي أن أفعل ذلك ، لابد من أن أنتظر حتى تتحرر بلدي من الإحتلال أولا . عندها سأتحول إلى مواطن عادي يحمل"جواز سفر" عادي .. يتيح لي الخيارات في السفر إلى المكان الذي أراه . وليس "وثيقة سفر" .. تهمة إسمها "عديم الجنسية" .. تكاد بالكاد أن تكفل له الإقامة في هذا البلد أو ذاك بحجة الدراسة العليا فقط .. ولا يجوز له - بعد إنهاء دراسته- أن يبقى فيها يوما واحدا !

* * *



وأخي قال لي ذات مرة :
" كم هو جميل أن يتمتع الإنسان بنعمة حرية الإختيار .
والأجمل من ذلك أن يعرف طريقه إلى هذه الحرية .
وأجمل من هذا وذاك .. أن يعرف ماذا يفعل بتلك الحريه ."


* * *

فوبرتال .. السبت 30/6/62


قبل الإنتهاء من العمل .. قال لي صديقي"يوهان" أن زوجته "إيفا" سوف تكون بانتظارنا لتناول طعام الغذاء معاً .. ثم نرى ماذا سنفعل في أمسية نهاية الأسبوع . ولم أكن بحاجة إلى إلحاح صديقي . قلت بسرعة :
- هناك حكمة صينية تقول أن "الكريم" هو صاحب الدعوة .. وأن من لا يقبلها هو "البخيل" !
الحقيقة أنني لم أسمع بحكمة كهذه لا من قريب ولا من بعيد . كل ما هنالك أنني تعلمت من صديق لي أن أنسب ما أقوله - أحيانا - إلى مصادر أجنبية لتزيده أهمية ومصداقية (!)
أردت التشبث باقتراح صديقي "يوهان" من أجل الخلاص من الرجل القابع في انتظاري ليسوق لي مبررات جديدة لهروبه من بلده .. ويبرهن لي بالأدلة على فشل "ماركس" و"لينين" .. ومن بعدهم "فالتر أولبريخت" في تحقيق العدالة الإجتماعيه في ألمانيا الشرقية .
حاولت أن أقنع صديقي بتأجيل الدعوة إلى المساء .. وبعد ذلك نسهر ما طاب لنا السهر . وذلك لكي يتسنى لي أن أعمل في المكتب أطول وقت ممكن .. فأنجز قدرا أكبر من العمل .. فأرد شيئا من جميل السيد الكريم الذي رضي بأن أبدأ عملي قبيل نهاية الأسبوع .. علاوة على تحمله مسئولية عملي في مكتبه بدون حصولي على التصاريح اللازمه .
صديقي "يوهان" زودني - باسما- بمعلومةهامة.. وهي أن كوني غيرمسجل في مكتب العمل لا يتيح لي الحق بأي ضمان صحي أواجتماعي أوأي مكافأة أو تعويض . علاوة على أنني أتقاضى أجراً يساوي نصف ما يتقاضاه المتدرب العادي . أي أن السيد الكريم هو المستفيد من وضعي .. ولا حاجة بي للتضحية من أجله !
وكانت سهرة ممتعة .
عدت بعد ذلك - في وقت متأخر- إلى القبو متلصصاً .. كي لا أزعج صاحبنا . لكنه كان في الإنتظار .
وجدته مكوما في نفس المقعد الذي تركته عليه بالأمس ॥ كأنه لم يغادره .. والكأس في يده .. وأمامه أكثر من زجاجة فارغة .. وصحنا تتكوم عليه أعقاب السجائر كأنه لم يتوقف عن الشرب والتدخين । إلى جانبه تبعثرت أكثر من علبة من علب السجائر الأميريكية الفاخرة .. و أكثرمن رسالة مفتوحة .. وبعض الصور الفوتوجرافيه .. كأنه كان يتحدى بها وحدته . وجرائد قديمة يرجع تاريخ بعضها إلى ما يزيد عن العام ، مانشيتاتها تتحدث عن إقامة سور برلين (!) **

____________________________________________________
** يعود بناء سور برلين إلى 31 أغسطس عام 1961 بعد أن ازدادت موجات الهروب والتسلل بين شرقيّ برلين و غربيّها .


أشفقت أن أكون قد خدشت مشاعره لأني تركته ينتظر . وهو الذي أعد العدة لكي يحتفل بضيفه في الليلة الثالثة .. الأخيره .
بادرته باعتذاراتي .. مدعيا ومؤكدا أنني لم أستمتع بسهرتي . انفرجت أساريره بعض الشيء . أضفت (كاذبا) بأنني حاولت ، عبثا ، العودة مبكرا لأشاركه السهرة والشراب.. والإستماع إلى حديثه الممتع .
قال ، وهو يصب لي كأساً من عصيرالتفاح ، بصوت لا يخلو من نبرة حزينة :
- إما أنك تسخر مني .. أو أنك رجل طيب ..

الحقيقة أنني لم أدخر جهدا لإخفاء خواطري الساخرة من سلوكه منذ أن قابلته . رفعت يدي بالكأس .. وحاولت أن أبدو مرحا . قلت :
- كأسك يا صديقي .. فلنشرب نخب الوطن !

شربنا .. وساد الصمت .
الرسائل المبعثرة على المقعد إلى جواره تنم عن حنينه .. وبؤسه المتراكم . ندمت أنني ذكرت الوطن في تلك اللحظة . خفت أن يتأجج بركان أحزانه .

كان يتجنب الإلتفات نحوي . عيناه كانتا تتلألآن بدموع محبوسة مكتومة . أجفانه المحمرة كانت تتلاقى بتواتر متقارب وكأنها بذلك تعلن رفضها للاستسلام .. وإطلاق الدموع من أسرها .
أعرف أن الخمر قد تعمق الإحساس بالحزن .
اعتراني شعور بأنني الأقوى . كأنما قد أكسبتني سنوات التشرد واللجوء والحرمان من الوطن حصانة ضد توابع الإحساس بالغربة .
الآلة الموسيقية ترسل بريقا يوحي ، أو يوهم ، بالفرح . توسمت فيها
أن تكون المنقذ لنا مما نحن فيه . قلت :
- ألم تعدني يا صديقي بأن تسمعني عزفك على الآلة الجديدة ؟

مرت بخاطري أغنية ألمانية قديمه.. آسرة .. كان يردد لحنها الجميل في ذلك الوقت المغني الأمريكي "إلفيس بريسلي".. يبدأها بمطلع الأغنية ، بكلماتها الألمانية ، ثم يواصل الغناء بكلمات إنجليزية قيل لي أن معناها لا يمت إلى الأصل بأي صله . سألته أن يعزف لحنها .. ورجوته أن يسمعني الكلمات الأصلية للأغنية التي لم أكن أعرف منها سوى مطلعها .
أحسست أني داعبت أوتار الشجن المشدودة على صدره ..
داعب أصابع الآله ..
خرجت منها ألحان لا تشبه اللحن الأصلي إلا من بعيد ..
أعاد المحاولة مرة .. وأخرى .. وأنا أتصنع الإستحسان ..
غنَّى بصوت مشروخ .. حبسته الوحدة مع ما توفر له من السجائر والخمور "المستوردة" ‍..
فإذا بالكلمات - يا ويلي !- تتغنى بالحنين إلى الوطن البعيد ..
الوطن يطاردنا يا صديقي .. يتسلل إلينا ..
لا .. إنه يعيش فينا .. لا سبيل إلى الهروب منه .
الوطن قدر محتوم على الإنسان ، مثل الإنتساب إلى الأب والأم .
الوطن يختارنا .. ولا نختاره .
لم يعد بإمكان صاحبنا التحكم بعواطفه ولا السيطرة على عضلات وجهه وغدده التي خانته وتمردت على كبريائه فانهمرت الدموع تسبق كفه الذي اجتهد ليمسحها قبل أن تفضحه .
بكى الرجل . استمر في البكاء ..
لكنه لم يتوقف عن محاولة استخراج اللحن من الآلة ..
كأنما كان يرى في الماضي خلاصا من وطأة أحزانه ..
وترك العنان لدموعه تجري وتنهمرعلى وجهه ..
كأنه كان يغتسل بها من أدران حاضره .. واللحن يعصاه ..
تذكرت الصورة الفوتوجرافية لأفراد عائلته في الحديقة .. وهو يتوسطهم محتضنا آلة الأكورديون القديمة التي ورثها عن أبيه .. الذي كان عازفا بارعا كما قال لي .. والذي كانت الطيور المهاجرة تتريث فوق الأشجار المحيطة بالبيت إذا ما سمعت عزفه الشجي . هذه كانت كلماته .
هل بكى صاحبنا لأنه تذكر أنه عازفاً ماهراً .. كان .. لا يقل مهارة في العزف عن أبيه ؟
الآلة الجديدة بريقها يخطف الأبصار.. لكنها لا تشاركه فرحا ولا حزنا..
تصدر أصواتا كأنها تهزأ به . هذه كانت كلماته .
إبنته أيضا سخرت منه .. في رسالتها الأخيره .
تريده هو .. ولا تحتاج إلى هداياه ..
علب الـ "تشيكليتس" .. و بنطلونات الـ "جينز" الأميريكاني ..
أخذ يردد كلمات إبنته وهو يمسح دموعه ..
وتحدث عن أشياء أخرى كثيرة . لم أعد أسمعه ..
كنت "ألمس" أحزانه .. في صوته .
"أسمع" أنين أشواقه .. في عينيه .
"أرى" حديثه وآهاته .. في صفحة وجهه .
أحزان الغربة .. وأشواق العودة .. والحديث عن الوطن ..
و"الحرية" التي تكبلنا خارج الوطن ‍.
* * *

فوبرتال .. الأحد 1/7/62

الحقيقة أن ظروفي في الليالي الثلاثة الماضية لم تمكنني من مواصلة ممارسة عادتي المنقرضة (والتي كنت أتشبث بها أثناء أسفاري بالذات) في كتابة مذكراتي .. أوعلى الأصح خواطري وإنطباعاتي . وكان لا بد من الإنتظار حتى أنتقل إلى مسكني المحجوز إبتداء من اليوم .. الأحد .
وهكذا اضطررت لأن أسجل اليوم - بأثر رجعي - ما فاتني تسجيله عن أهم وقائع تلك الأيام الثلاثة الماضيه . وأرى أن أكتفي بالصفحات التي دبجتها اليوم .

* * *




فوبرتال .. الخميس 5/7/1962

صباحا ، فوجئت بالهر "شولتس" يدعوني إلى غرفته ، ويستقبلني بابتسامة عريضة ، وهو يمد لي جريدة “Die Welt” ، " العالم" ، الألمانيه بيد ويشير بالأخرى إلى "مانشيت" خبر كنت قد قرأته ضمن مانشتات أخرى لصحف أخرى محلية تعودت أن أقرأها في واجهة كشك الصحافة في محطة المترو كل صباح :
( يوم الخميس 5/7/1962 يوم إعلان استقلال الجزائر ) *
____________________________________________
(*) تحتفل الجزائر بعيد الاستقلال في يوم 5يوليو رغم أن الجزائريين قد انتزعوا استقلالهم يوم 3 يوليو 1962 . ولقد وقع اختيار اليوم الخامس من يوليو لتجسيد هدف سياسي ، إذ أن فرنسا كانت قد احتلت الجزائر يوم 5 يوليو 1830


- إنه النصر الثاني لـِ "ناصر" على فرنسا..
هتف الهر "شولتس" بشماتة ذكرتني بإشاراته للموقف الألماني من فرنسا .. وموقفه هو من العدوان الثلاثي (بريطانيا ، فرنسا ، إسرائيل) عام 1956.
- فرنســـا.. ؟
وتساءل مؤكدا بحماس .
- .. ألم تتجه إلى دعم إسرائيل ردا على دعم "ناصر" لثورةالجزائر؟ من الذي قام بإهداء المفاعل الذري ، المسمى "مفاعل ديمونه" ، لإسرائيل في ذلك العام بالذات ؟

وروى لي ، فيما روى ، مالم أسمعه من قبل عن "فرنسا الباغية" ، يوم تجمع الجزائريون مع عائلاتهم في مظاهرة مسالمة في العام المنصرم على جسر "ميرابو" في باريس ، في يوم 17 من أكتوبر 1961، يعلنون عن إحتجاجهم على حظرالتجول المفروض عليهم ، فأمر"بابون"، مسئول الأمن الفرنسي في حينها ، البوليس الفرنسي بإلقاء العشرات منهم من جسر "ميرابو" ** في نهرالسين .
ولم ينس أن يقارن بين "بابون" وبين "أيخمان" ، الذي تم إعدامه قبل شهور، في يوم 31من مايو 1962 ، والذي تواطأ مع النظام النازي لخلق حالة الفزع عند اليهود وإجبارهم على الهجرة إلى فلسطين .
___________________________________________
** نسبة إلى "ميرابو " .. خطيب الثورة الفرنسية الذي ارتبط اسمه بحريتها .


كأنما شجعتني حفاوته هذه ، ومحاولاته الدؤوبة أن " يَحُك لي على جرب" ، كما يقول المثل الفلسطسني ، بأن أستأذنه في الغياب عن المكتب في ذلك اليوم ، و ذلك لسبب آخر غير الذي تبادرإلى ذهنه..
وهو الإحتفال بمناسبة الإستقلال . فقد كنت أنوي السفر إلى مدينة "كولون" القريبة لزيارة صديق فلسطيني يقيم فيها ، كان قد زودني بعنوان إحدى المكتبات القليلة، في ألمانيا ، المتخصصة في بيع الكتب والأسطوانات الموسيقية العربية. هذا بالإضافة إلى نيتي في شراء جهاز تسجيل "ريكوردر" من نوع "جرونديـــــج" الألماني ذائع الشهرة
والذي طالما تمنيت أن أقتنيه. فلقد حدثني صديقي المقيم في "كولون " ، أنه يعرف مكانا يبيع أحدث الأجهزة بأسعار مخفضة ، بالإضافة إلى
خصم "ضريبة الإستهلاك" للأجهزة التي ينوي مشتروها من الأجانب الخروج بها من الأراضي الألمانيه .
طلبت من صديقي "يوهان" أن يعتذر بالنيابة عني لعدم تلبية دعوة "إيفا" .. زوجته . وعرفت منه أنني سأكون في "كولون" في أقل من ساعة ، لو أنني توجهت في الحال إلى محطة القطار .
في الميدان الرئيسي للمدينة ، الذي لا يبعد عن محطة القطار غير بضع عشرات من الخطوات ، كنت أتلفت حولي باحثا عن شخص أتوسم فيه الإستعداد للإجابة عن سؤالي عن طريقة الوصول إلى الشارع الذي تقع فيه المكتبة .
مر شاب ممتليء الجسم متجاوزا إياي من خلفي . وبالرغم من أنني لم أر وجهه ، إلا أن ملبسه وسمرة قفاه كانا ينمان عن إنتمائه لبلد شرقي . مددت يدي لأربت على كتفه من خلفه :
- من فضلك !

التفت بشيء من التساؤل الذي سرعان ما تبدد وتحول إلى دهشة مذهولة :
- مين … ؟!
- مين … ؟!
- مش معقول !

كانت المرة الأخيرة التي افترقنا فيها ، ولم نلتق بعدها أبدا ، عندما انتقل والده من القدس ، للعمل في عمّان ، عام 1945 . كنا في العاشرة من عمرينا .
بالرغم من مرور ما يقرب من خُمس قرن من الزمان ، لم يتغير من ملامحه الشيء الكثير . وجهه المستدير، سمرته ، شفته العليا المتدلية ، عيناه الذكيتان ، جبينه العريض الذي كان أيضا أحد سمات ذكائه. كل ما هنالك أن حجمه قد تضخم بشكل ملحوظ ذكرني بوالده الذي كان صديقا لوالدي . كما ازداد وجهه استدارة ، واخشوشن صوته ، وامتد عرض جبينه حتى يكاد أن يصل إلى قفاه !
- يظهرأن هناك الكثير من الأشياء الغير معقولة في انتظارنا .

قالها وهو يشدني من ذراعي في إتجاه لم أجد ما يستدعي أن أستوضحه . فهو يبدو واثـقا مما يفعل . كأنه قد أدرك أنني أزورهذه المدينة للمرة الأولى ، فانطلق يتصرف كالمضيف العارف . يقودني عبرالشارع بدون أن يعبأ باعتراضي على مخالفة قواعد مرورالمشاة ، وهو يوميء لي بأن آخذ الأمور ببساطة .

قال وهو يمسح بكفه رغوة البيرة التي كللت شفته العليا التي تضخمت هي الأخرى وازداد تدلّيها ، بالرغم من أنه لجأ إلى ترميم العيب بأن ملأ المساحة بينها وبين منخريه بشوارب عريضة :
- لا تقلق .. مشاويرك كلها لا تحتاج لأكثر من ساعة .. فاترك بقية اليوم لي أنا . أما عن صديقك المقيم هنا في "كولون" فيمكنك زيارته في يوم آخر ما دمت لم تتفق معه على موعد محدد .. وما دمت تتدرب في مدينة "فوبرتال" القريبة . فهناك أشياء كثيرة أرى أن نتحدث عنها ، خصوصا بعدما عرفت منك أن هناك في "فيينا" هذا العدد من الطلاب الفلسطينيين ، وأنه قد تم انتخابك رئيسا لفرع إتحاد الطلبة هناك .
- قلت لك أنه مجرد تجمع طلابي فلسطيني في إطار رابطة الطلبة العرب . القانون لا يسمح بإقامة فرع لإتحادنا في النمسا .
- مش مهم .. عندي ما هو أهم .

وأكمل وهو يرتفق مائدة المقهى ، وينقر عليها محددا بسبابته :
· نذهب إلى المكتبة أولا ، وهي لا تبعد كثيرا عن الميدان .
· نشتري "المُسجِّل" ، فأنا أعرف ذلك المكان الذي حكى لك عنه صديقك .
· نتصل بصديقك إن شئت وندعوه لينضم إلينا .
· نذهب إلى مسكني ، بعد أن نمر على البقال المجاور لنا ونتزود بما يلزمنا للطعام .. والشراب .. لنحتفل بإعلان الإستقلال .

لم أجد أمامي خيارا آخرغير الإمتثال لرفيق الطفولة الذي ظهر لي فجأة ، ويبدو أنه سوف يختفي أيضا بدون مقدمات .
إنه يتكلم بسرعة .. ولكن بتركيز واختصار واضحين . واثق مما يقول .. كأنما يعرف مسبقا نتيجة وقع حديثه .
حديثه ذكرني بسائق التاكسي اللبناني الذي أبى ، في العام المنصرم ، أن يتقاضى أجره مني يوم أن انطلق بي من بيروت إلى الجبل ، للبحث عن أقارب لي .
قال لي ذلك السائق ، أيضا ، أننا لا بد أن نتفق ، كفلسطينيين أولا ، و أن نأخذ زمام أمرنا بأيدينا ، وأن لا ننسى أن أميريكا هي عدونا المختفي وراء "إسرائيل " والمتواطيء معها. وتحدث ، كذلك ، عن "تنظيمات سرية" ذات "أجنحة عسكرية".. وعن "العمل الفدائي" .. والضرب في العمق .. والكفاح المسلح طويل الأمد .. والمسيرة الطويلة .. و .. "ما يحرث الأرض إلا عجولها" .. واختفى !
عرفت من رفيق الطفولة أنه قد شارك بالقتال في الجزائر ، بعد أن نال قسطا من التدريب العسكري اللازم مع مجموعات أخرى من الفلسطينيين .
رأيت بريقا يتلألأ في عينيه وهو يقول أن نجاح ثورة الجزائر هو بمثابة بلسم للجرح العميق الذي سببه انكسار حلم الوحدة العربية بانفصال سوريا عن مصر (**) في سبتمبرعام 61 ॥ وأننا يجب أن لا نتوقف عن الأحلام ।

_____________________________________________________________
(** ) أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا في 25/2/1958 .. ولم تستمرأكثر من 44 شهرا


قال أنه قد آن لنا أن نتدارك كل أخطاءنا ونلملم شتاتنا ونتبنى فكرة "التنظيم" ، استعدادا لخوض حرب شعبية طويلة الأمد .. وأكد ، فيما أكده ، أنه لا يحبذ العودة إلى الرأي القائل بتوريط الدول العربية بحرب نظامية مع إسرائيل مرة أخرى .. و .. كمن يقلب الصفحة ويبدأ في تلاوة صفحة جديدة .. قال باستمتاع وتحد شديدين :
- .. اليوم نحتفل باستقلال الجزائر .. وغدا بتحرير فلسطين !
وإذا كان الإحتلال الفرنسي للجزائر قد امتد لـ 130 عاما .. فإن غدا لناظره قريب !
كان يتحدث وأصابعه تعبث بأزرار الريكودر الـ "جرونديج" الجديد ، الذي ما زال حتى الآن من ضمن مقتنياتي مع الكثير من الأشرطة المسجلة التي تزخر بالذكريات .
لكنني ، بالرغم من محاولاتي المتكررة ، لم أستطع أن أحدد الشريط الذي تم تسجيل صوت "محمد الوكيل" عليه ، مع صوتي وأنا أردد من بعده :
أقسم بالله العظيم ..
أقسم بشرفي ومعتقداتي ..
أقسم أن أكون مخلصا لفلسطين ..
وأن أعمل على تحريرها بكل صمت ..
باذلا كل ما أستطيع ..
وأقسم أن لا أبوح بسرية الحركة .. وما أعرف من أمورها ..
وهذا قسم حق .. والله شاهد .

* * *

أذكر أن رفيق الطفولة ابتسم ابتسامة ذات معنى .. وكأنه كان يطلب مني أن أحتفظ بتساؤلاتي لحين آخر .
لكننا لم نلتق بعد ذلك أبدا .
* * *


كان لا بد لك من أن تخلو إلى نفسك لكي تزن الأمور .. على ضوء ماسمعته من رفيق الطفولة .
كما كان لا بد من أن يشاركك ذلك رفاقك الذين تركتهم في "فيينا" دون أن يشفى غليلهم بردود على تساؤلاتهم التي كانت تساؤلاتك أنت أيضا .

كنتَ ، وكأنما كنت تهرب منهم ومن نفسك إلى شفافية "يوهان" ونقائه .. ورقة "إيفا" وابتسامتها البهية وأطباقها الشهية .. أو مشاكل "فولكر" وعقده وتبريراته .. ونظريات "شولتس" وظنونه وحساباته .

لم يكن "القََـَسَـم" المشار هو التزام فقط بالتمسك بمشروعك الوطني ، بل الحرص أيضا على العمل من أجله في صمت وسرية .
إلا أن لم تنس أبدا أن تشرك أخاك "عابد" فيما انتهيت إليه ، فهو مرشدك ودليلك في كل خطواتك .

* * *


أقول :
للمنفى مساويء كثيرة لا تحصى .. وفضيلة واحدة لا تنسى ..
إنه يذكرنا دائما بحاجتنا إلى وطن .. ويؤكد صلتنا بأصولنا .

* * *




زمن العودة لأحلام " العــــــــودة " ** ..

لم تجد في أوراقك القديمة ما يوضح بشكل مباشرأثر ماقاله رفيق الطفولة "م. الوكيل" .
لكن أوراقا أخرى بـينت أنك لم تمكث في ألمانيا سوى أيام . عدتَ بعدها إلى فيينا لتواصل تدريبك هناك ، قريبا من رفاقك الذين انتخبوك رئيسا لهم .
من بين تلك الأوراق وأوضحها كانت شهادة الخدمة التي قضيتَها بعد ذلك ، في فيينا ، في مكتب المهندس المعماري "هوبـينبيرجر" Hoppenberger ، من 10/7/62 إلى 13/10/1963 .

_____________________________________________
(**) في الخمسينات .. في بداية الهجرة .. كان آباؤنا وأمهاتنا يرددون ، من قبيل الترحيب والتمنيات الطيبة في مناسبات الأعياد والزيارة ، بعد تناول فنجان القهوة ، كلمات مثل: "بالعوده" و "في البلاد إن شاالله" وما شابهها ..
ثم انقرضت تلك العادة أو كادت .. كأنما دب اليأس في النفوس . ولم يلبث ذلك الحلم أن عاد .. وعادت معه تلك الأمنيات تتردد على الألسنة مع إرهاصات الثورة .



* * *



كانت الأغلبية من الطلبة الفلسطينيين في "فيينا" تسكن "الحي الثاني" ، فهو من الأحياء الشعبية القريبة إلى مركز تجمع الكليات الجامعية ، إلى جانب تواضع الإيجارات السكنية فيه .
كنت أكبرهم سنا بحكم انقطاعي عن الدراسة لسنوات العمل في السعودية . وكنت أكثرهم إطلاعا بحكم ميلي للقراءة و إتقاني النسبي عنهم للغة الألمانية بفضل أسبقيتي في الوجود في فيينا . وذلك مما أدى ، وكان أيضا نتيجة ، لاشتراكي بناد ثقافي تابع لدار النشرالمعروفة في فيينا "أرض الدانوب" Donauland التي كانت تقوم بمنح مشتركيها خصومات هائلة على أسعار كتبها مقابل الإلتزام بشراء الحد الأدنى شهريا من كتب الدار .
هذا .. ولا أنسى فضل شقيقتي الكبرى "حُسْن" التي حرصت على استمرار وصول بعض الصحف لي ، ومواصلة تجديد اشتراكي السنوي بمجلتي "روزاليوسف" و"صباح الخير" طوال فترة دراستي . وذلك ما كان بمثابة "الحبل السُّري" الذي يربطني بالوطن الأم .. الوطن العربي .

أحد هؤلاء الطلبة ، "نبيل" ، كان هوالأخ الأصغر لصديقي "حسن قليلات" ، زميل سنوات الدراسة الثانوية في "غزه" . كان احترامه لي ، بحكم علاقتي الوطيدة بأخيه الأكبر، كأنما فرض على بقية زملاءه أسلوبهم بالتعامل معي .. وكأنما منحني ذلك شعورا بالأبوة الأدبية و الفكرية.
كنا نتوافد تلقائيا على مقهى "هاينِه" المسمى حسب موقعه في شارع "هاينِه شتراسِّه" Heine Strasse ، المسمى بدوره باسم شاعر الألمانية الغنائي الرومانسي الشهير الذي يقال أنه تخلّى عن يهوديته وتنصّر .. "هاينريش هاينه" . ثم تعودنا أن يلتئم شملنا في ذلك المقهى في مساء يوم السبت من كل أسبوع . هذا إلى جانب لقاءاتنا في مقر رابطة الطلبة العرب .
لا أذكر بالتحديد متى وكيف انتظمنا وواظبنا على لقاءات من هذا النوع ، يقرأ فيها أحدنا ، على التوالي ، تلخيصا لكتاب أو بحث قرأه عن قضية فلسطين ، أو ما يؤثر فيها من قريب أو من بعيد. إنما الذي أتذكره أننا كثيرا ما كنا نشعر بالحرج من نقص في المعلومات التي تدعم حججنا أثناء حواراتنا مع الطلبة أو غيرالطلبة من المواطنين و الأجانب في "فيينا" . كنا نشعر أننا مسئولون عن حمل ذلك العبء الذي لم توله أجهزة الإعلام العربية عنايتها اللائقة . ولذلك يتحتم علينا تعميق معرفتنا بقضيتنا .. وتطوير أدواتنا لمواجهة رأي عام ، أوروبي ، يحكمه إعلام صهيوني يهودي إسرائيلي قوي بحيث أمسى لا يعرف عن فلسطين والفلسطينيين و"مشكلة الشرق الأوسط" إلا ما درج على سماعه عن نتائج مذابح النازية ضد اليهود من خلال كل أنواع الوسائط الإعلامية .. صحافة .. وإذاعة .. وتلفزيون .. ومسرح .. وسينما ..
لم يكن أيُّنا معدا للانخراط في نقاش جاد وعلمي حول قضايانا العربية ، كنا فقط محملين بشعارات ومقولات جاهزة كالتي كان يقولها إعلامنا ليل نهار، ولكنها لا تصمد في مواجهة الأسئلة الصعبة.
وعندما كانت النقاشات تدور بين الطلبة في الوسط الجامعي ، كنا نفاجأ بأسئلة لسنا على استعداد للإجابة عليها .
كنا نفتقر إلى إتقان إدارة المناقشات البناءة .. بحيث نستطيع مخاطبة الآخر وأن نؤثر فيه بدون أن يشعر أننا ننتقص من مقدار ثقافته أو معلوماته أو رجاحة عقله .. فينصرف عنا .
كنا بحاجة إلى شيء من التنسيق والتوحيد في مضمون الإجابات على الأسئلة التي كان كل منا يجد نفسه مضطرا لمواجهتها صباح مساء ، فلا يضطر كل منا على حدة أن يرتجل إجاباته بما يمليه عليه "إحساسه" الوطني والقومي فقط .
لا يكاد أحدنا أن ينجح في طرح المسألة بشكل عقلاني .. حتى نفاجأ بأحدنا يرميه بالجهل إن لم يكن بالخيانة .. أو يبادر إلى المناداة جهارا بما يعني ويؤكد إدعاءات الصهاينة المفبركة ** عن نوايا العرب برمي اليهود في البحر .
توحيد "الخطاب السياسي الفلسطيني" ॥ هو ما كنا نفتقده ونشعر بحاجتنا الماسة إليه ।


* * *


أثناء النقاش حول ما جاء ، في ذلك الوقت ، في إحدى المحاضرات التي ألقاها أحد نشطاء الطلبة العرب في نادي "المؤسسة الأفريقية الأسيوية" بفيينا ، علّق أحد الحاضرين من الأجانب سائلا :
- .. .. ونحن نكاد نؤمن ، بفضل الحقائق التي أتيح لنا معرفتها منكم لأول مرة ، بحقكم التاريخي بفلسطين .. ولكن ماذا عن اليهود الذين يعيشون فيها الآن .. وماذا عن الأبرياء الذين قدر لهم أن يولدوا فيها بعد عام 1948 .. هل سوف ترمونهم في البحر كما نسمعهم يقولون؟!
_________________________________________
(**) بعد هزيمة 67 أمر عبد الناصر بتشكيل لجنة للبحث عن مصدر عبارة "إلقاء اليهود في البحر" . وثبت أنه قد تم فبركتها من قبل وسائل دعايتهم وقتها لاكتساب عطف العالم .

كأنما أسقط في يد الزميل المحاضر . وقبل أن تطول مدة تردده طلب الكلمة أحد الحاضرين الأجانب ، مشيرا إلى أحد أعضاء البعثة التعليمية المصرية للدراسات العليا ، وكان برفقة زوجته التي تبدو عليها علامات الحمل في الشهور الأخيرة ، وتحدث بتلقائية وبساطة عن احتمال استقبالهما لوليدهما في "فيينا"، وعن حق المولود في الإقامة في البلاد بل وحقه في نيل جنسيتها .. والتمتع بكل حقوق المواطنة فيها ، طالما حافظ على أداء واجباته تجاه هذه البلاد ومواطنيها الأصليين .

لم تتعود أن تنغمس في أحاديث السياسة ، وبالذات وسط عدد كبير من الحاضرين . ولكنك تذكرت طرحا كان أخوك "عابد" قد أعاد التلميح إليه في إحدى رسائله الأخيرة وكان
قد لاقى في نفسك هوى .. و قام بسد ثغرة كانت كأنما تفغر شدقيها متسائلة في كثير من المناسبات ، مسببة الحرج . هذا مع العلم بأنك مازلت ، حتى تلك اللحظة ، تتحرج من المجاهرة بمثل هذا الطرح "الرومانسي" في نظرك .. والمفرط في تفريطه في نظر الآخرين (!)
وهكذا ألفيت نفسك تتحدث عن حتمية العمل على إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين أولا ، وعن قناعتك بجدوى أن تفتح الدول العربية أبوابها لعودة من يشاء من اليهود العرب الذين غادروها تحت ضغوط متباينة ، لتعود المياه إلى مجاريها ، ويعود اللاجئون الفلسطينيون إلى ديارهم ، وتقوم عندها في فلسطين دولة يعيش فيها يهودها مع مسيحييها و مسلميها في ظل "دولة فلسطين" ذات النظام الديمقراطي العلماني الذي يكفل المساواة للجميع في كافة الحقوق والواجبات .*
صفق البعض (وهم من الأجانب وبعض الطلبة العرب) لهذا الطرح .. وقام البعض الآخر (وهم من الطلبة العرب) بالسخرية منك . بل إن بعضهم قد تفوّه بكلمات تنذرك بالويل والثبور وعظائم الأمور، وذهب إلى إتهامك بما يشبه الخيانة العظمى . وكدت يومها أن تتعرض لإعتداء بعض المتزمتين منهم ، و الذين كانوا يتربصون لك في الخارج ، بعد انتهاء المحاضرة ، لو لا البعض الآخر الذي قام بحمايتك ومرافقتك إلى أن زال الخطر .

* * *

ذكرني بهذه الواقعة صديقي "نبيل قليلات" ، زميل الدراسة في "فيينا" ، أحد أفراد مجموعة مقهى "هاينه" ، عندما تقابلنا في برلين عام 1975 ، حيث كان يشغل منصب "السفير" لمنظمة التحرير .
ثم ذكرني بها مرة أخرى عندما تقابلنا مؤخرا لدى "زيارتي المؤقتة" إلى "غزه" عام 1995 ، عندما كان يوميء إلى الوضع المتردي الذي وصلنا إليه بقبول "أوسلو" على علاتها .

__________________________________________
(* ) استطاعت "فتح" بتأييد من بعض الفصائل الفلسطينية الأخرى وضع شعارالدولة الفلسطينية الديمقرا طية العلمانية ضمن برنامج المجلس الوطني الفلسطيني الثامن لسنة 1971


* * *



"فتــــــــــــــــــــــــــــح" ..


يهاتفني صباح ذات يوم سبت شخص فلسطيني لا أعرفه ، يتكلم اللهجة الغزاوية ، ويطلب مقابلتي لأمرهام . ولم أجد حرجا من الإتفاق معه على اللقاء في ذلك المقهى ، "مقهى هاينه" ، قبل ساعة من موعد توافد مجموعتنا .
لكن الأخ "يحيى" لم يحضر إلا بعد التئام الجمع . لا أعتقد أنه كان يقصد ذلك . ربما كانت هي عاداتنا في التهاون في تقديرالوقت والمواعيد .
تم تعارف الجميع ، واتضح أنه يدرس في مدينة "جراتس" ، جنوب "فيينا". وأنه جاء خصيصا لمقابلتي ، وسيعود أدراجه في نفس اليوم . كان يمسك بيده مغلفا يبدو أنه يحتوي على كمية من الأوراق ، مما جعلني أستبعد أن تكون الرسالة "شخصية" . ولم يترك لي فرصة للتخمين إذ قال بدون أي حرج من أن يعرف الآخرون شيئا عن "الأمرالهام" :
- أنا آت إليك في مهمة خطيره . فهناك "تنظيم سري" .. .. ..

وبالرغم من أنني كنت حديث العهد بمثل هذه المصطلحات وما وراءها من المهمات ، إلا أنني رأيت أن أغير مجرى الحديث ريثما ننفرد للخوض في هذا الموضوع السري الخطير .
في تلك اللحظة تذكرت الرسالة الممهورة بختم "الهيئة العربية العليا" ، التي حملت لي التهاني بمناسبة انتخابي رئيسا لمكتب فلسطين ، كما أبدت استعداد "الهيئة" لتقديم ما احتاجه من المساعدات . لكنني سرعان ما استبعدت وجود أي علاقة بين "التنظيم السري" و "الهيئة" التي لم تنقطع عن إمدادي بالمطبوعات الإعلامية المفيدة .
على أنه من أهم ما كان يصلني في ذلك الوقت ، بدون تحديد المصدر، هي مجلة "فلسطيننا" ، التي عرفت بعد ذلك أن حركة "فتح" السرية كانت تقف وراءها !
لم أستطع ، في حينه ، أن أخفي دهشتي واستغرابي من تسرع الأخ "يحيى " وقلة حرصه والتزامه بـ "السّرية" أمام مجموعة لا يعرف عنها شيئا .
هل كان رفيق الطفولة "م. الوكيل" أكثر حرصا ، أم هي نشوة إدراك "الفكرة" والإمساك بها التي استولت على "يحيى" ؟
على أي حال .. فقد كان المغلف يحتوي على مجموعة من بيانات "فتح" الأولى .
وكان من بين الجالسين شخصان ما زالا، مثلي ، حيّان يرزقان حتى كتابة هذه السطور .
"نبيل قليلات".. الذي أصبح فيما بعد مديرا لمكتب منظمة التحرير في برلين الشرقية .. بمرتبة سفير .
و"عوني قرمان" .. الذي أصبح بدوره مديرا لمكتب المنظمة في "فيينا" نفسها .
أما "يحيى عاشور" .. فقد التقيته بعد ذلك بحوالي إثني عشرعاما في بيروت .. ولم يكن سوى "حمدان" أمين سر المجلس الثوري لحركة "فتح" .


* * *





التسوية السلمية .. ونهــج التفريــــــط !

مازال أحد العناوين التي كانت تتصدر إحدى أوراق المغلف الذي تركه لي "حمدان" يتراوح أمام ذاكرتي :
" شرم الشيخ .. سؤال قد يتحول إلى إتهام ! "

كأنما كانت المعلومة التي حملها البيان تؤكد أن انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة وسيناء ، عام57، إثرالعدوان الثلاثي على مصر، لم يكن إنسحابا كاملا !
أو أنها كانت تنفي عودة السيادة المصرية الكاملة على "شرم الشيخ" .. وبالتالي على "خليج العقبة"، حيث كانت مهمة قوات الطواريء الدولية ضمان حرية "إسرائيل" للملاحة في الخليج ، كما في قناة السويس .
ما معنى هذا ؟
هل كانت "فتح"، حقاّ ، هي أول من رفع صوته ضد "نهج التفريط"، مقابل "التسوية السلمية" ؟!

* * *

لم يعد سرّا أن هناك ، من الطلبة الفلسطينين ، من ترك الدراسة آنذاك والتحق بمعسكرات التدريب مقاتلا . ومنا من ظل على علاقة بالتنظيمات المختلفة ، بعد أن تكاثرت ، خلال فترة الدراسة .
وكان لا بد لك من أن تتخذ قرارك بالبدء بدراسة "السينما"، كما ذكرت ، إيمانا بقوتها وجدواها كسلاح ، ويقينا منك بأنك سوف تجيد استعمال هذا السلاح ، دون غيره . هذا إلى جانب يقينك بأن أحدا من إخوانك الفلسطينيين ، في ذلك الحين ، لم يفكر في ذلك .

* * *








"أي ثورة لها ثلاثة أعمدة لا غنى أبدا عن أحدها :
الكفاح المسلح .. والسياسي .. والإعلامي ."
جنرال جياب
قائد النصر الفييتنامي على الفرنسيين
في معركة "ديان بيان فو" عام 1954

( فلاش باك Flash back) ..


كانت "السينما" تستهويني دوما. وكان ما يكتب عن الأفلام السينمائية في الصحف والمجلات يستدرجني لأشاهد هذا الفيلم أو ذاك ، ثم أقارن بين ما كتبه هذا الناقد أوغيره . وأهرع لأرى كيف عالج ذلك المخرج تلك الرواية ، التي حولها خيالي أثناء قراءتها أو بعدها إلى فيلم سينمائي . أو أسارع إلى قراءة قصة أو رواية جرى تحويلها إلى فيلم سينمائي قبل أن أشاهده ، أو بعد ذلك . وهي عادة قديمة ، تعودتها في صباي المبكر. هذا بالرغم من تلك النظرة الاستنكارية ، المتخلفة ، من قبل أوساطتنا المتزمتة لمثل هذه الاهتمامات . ولازمتني تلك العادة بشكل أكثر جدية ، أثناء دراستي في "فيينا"، حيث كان المجال أوسع وأرحب . خصوصا في فترات تدريبي وما بعدها ، حيث كانت أحوالي المادية تتيح لي التردد على "الصفوف الأمامية" ، الأقل تكلفة ، لمختلف دورالسينما في فيينا .. بشكل يومي تقريبا .

* * *


لم يترك صديقك طالب الموسيقى المصري، خفيف الروح ، "عبدالحميد مصطفى"، فرصة تفوت دون أن يتندر بأثار "إدمانك" على الجلوس في مقدمة الصفوف الأمامية من دور السينما على هيئتك التي باتت تتميز بظاهرة رأسك "المحدوف" إلى الخلف .. جالسا كنت أو ماشيا .
هذا بينما فسرآخرون تلك "الظاهرة" بأنها من مظاهر تهمة التعالي التي كان بعضهم يرميك بها ، وهو (ويا للعجب) ما يتناقض مع صفة "الإفراط في التواضع" التي دأب بعض الأصدقاء المقربين بعد ذلك على وصفك بها ، وتحذيرك منها ، لما قد يفسره بعض ضعاف النفوس بعدم ثقتك بقدراتك .

* * *

كان ذلك هو ماقاله لك صديقك الشاعر "سيد حجاب" حينما صادف أن ضبطك في بهو مبنى التلفزيون في القاهرة متلبسا بالإصغاء إلى حديث أحد الزملاء عن الفرق بين الإخراج السينمائي والإخراج التلفزيون . ذلك حينما انتشر نبأ قيامك بإخراج أول أفلامك الروائية في القاهرة .
وقف "سيد حجاب" في ذلك الوقت ينتظر نهاية حديث الزميل . ولكنه لم يستطع الاستمرار فترككما بشكل يدل على ما سببه له الزميل من استفزاز .
لم تسلم من لوم وسخرية صديقك "سيد حجاب" لاحقا على طريقة إصغائك لزميلك في العمل :
- "واقف تسمع له بتَلْمَذَة شديدة" بينما هو يسترسل في شرح أشياء إنت مش بحاجة إلى سماعها .. وانت قاعد تهز راسك وتوافقه على كلامه .. إلخ !

عندها لم أجد ما أقوله ، ولكنني حاولت :
- يا سيّد يا صديقي .. الراجل كان مبسوط ووجهه ينطق بالسعادة لاهتمامي بما يقول .. وأنا كنت شايف إنه مش لازم أحرمه من هذه اللحظات السعيدة .. بينما لا يكلفني ذلك شيئا سوى أن أهز له رأسي موافقا بين حين وآخر .

* * *

في بداية المرحلة الدراسية الأولى ، كانت دار سينما "أورانيــــــا" Urania تتوسط المسافة بين مبنى أكاديمية الفنون التطبيقية وبين مسكني في الحي الثاني، في"فيينا"। وكثيرا ما كانت نافذة عرض صور "الأفلام القادمة" تلفت نظري أثناء رحلتي اليومية بالمترومن البيت إلى الأكاديمية وبالعكس. ثم دأبت بعد ذلك على أن أتحايل على المسافة ، لأقطعها مشيا على الأقدام ، بأن أمرعلى تلك المؤسسة ، أتفرج على صورعروضها المقبلة وأتزود بنشراتها، فأكون بذلك قد اجتزت نصف المسافة ، ولا أجد ضرورة لركوب المترو لاجتيازالنصف الآخر منها . وكانت تلك الدار تتميز بأنها تتبع إحدى المؤسسات الثقافية ** ، التي تحمل اسمها ، وتتخصص بشكل مخلتف في عرض الأفلام التسجيلية وأفلام المهرجانات ذات القيمة الفنية والفكريه . فهي مشهورة ، مثلا ، بــِ"أسابيع الأفلام" بأنواعها .

______________________________________________
(**) وهي المؤسسة التي أوحت لي فيما بعد بمشروع تخرجي من أكاديمية الفنون التطبيقية .. مشروع مبـــنى "المــركـز الثقــــافي الفلسطيــــني" .


وكانت سينما "أورانيا"هي أول عهدي بالأفلام التسجيليه، التي لم تكن في الغالب، في نظري ونظرالكثيرين، سوى"جريدة ناطقة" تحتوي على "ريبورتاجات" تعرض عادة قبل عرض الفيلم الرئيسي في دورالسينما .
أصبحت أجد متعة في مشاهدة فيلم تسجيلي طويل ، أو مجموعة أفلام قصيره ، تنقلني إلى أماكن متعددة ، وتنقل لي واقع تلك الأماكن بدون تزييف أو تجميل . إلى أن جاء يوم عرض فيلم تسجيلي اسمه باللغة الألمانية "Paradies.. und Feueroefen " بمعنى "الجنة ..
وأفران النار" ، والذي كان ينقلنا من الحديث عن نار "أفران الغاز النازية" إلى استعراض"الجنة" التي صنعها اليهود لأنفسهم من صحراء فلسطين (!)

كان ذلك في أواخرعام 1960 ، على قدرما أذكر.
ولكنني ما زلت أذكر، وبالتفصيل ، تسلسل اللقطات المأخوذة من الجو ،
والتي كانت تنقلنا ، عن طريق "المزج" ، من أراض صحراوية شاسعة قاحلة وقد تشققت بسبب ما أصابها من العطش ، إلى مساحات لا نهاية لها من اللون الأخضرالجميل . ثم نرى بتفصيل تدريجي أشجار البرتقال بثمارها الذهبية اللون المتلألئة ، وفتيات جميلات يرتدين "الشـورت" الذي يكشف عن سيقان لا تقل نضارة و تلألؤا ، وهن يجمعن المحصول، ويضعنه في صناديق كتبت عليها كلمة "يافا" .. تلك الكلمة التي باتت بديلا عن الإسم المعروف والمتداول .. "البرتقال اليافاوي" ، وينشدن أغنية ، بكلمات عبرية ، لا تحتاج إلى كثير من الدهاء لتعرف أن لحنها ينتمي إلى أصول عربية .
وتتعالى شهقات الإعجاب في صالة العرض من الجمهورالذي رأى بأم عينه كيف حول "اليهود" المضطهدين نارهم إلى جنه . وكيف أصبحت الأرض القاحلة (الخالية من السكان ) ، بفضلهم ، وطنا جميلا ، لشعب جميل كان مشردا بلا وطن .
ثم يرى الجمهور موقعا قاحلا على شاطيء البحر، كان فيما سبق ، حسبما يفيد التعليق ، مجرد محطة لقوافل الجمال ( ! ) فإذا بهذا الموقع يتحول ، حسبما يرى الجمهور، بأم عينه ، على أيدي ذلك "الشـعب المختـار" إلى .. ميناء عصري .. ومدينة جميلة حديثه اسمها .. "حيفـــــا" ( ! )
بدا لي جليا أن لغة السينما قد اقتربت من ، أو ربما سبقت ، اللغة الشعرية في مقدرتها بفصاحة التعبير وبلاغة الوصف على الإقناع ، بحيث أمكن استغلال قوة تأثيرها ، لتحويل الأكاذيب إلى حقائق تراها العين ، فتستعذبها ثم تصدقها .
لا عجب ! فقد قالوا قديما .. " أعذب الشعر أكذبه" !
ألا يذكرنا هذا بأفلام الدعاية لـ "صابون الجمال" والـ "شامبو" ! حيث يجتهد صانعوا تلك الأفلام في اختيار فتيات جميلات ذوات بشرة نضرة أو شعور حريرية منسابة بطبيعتها ، ثم يدبجون الكلمات والصور التي توهم أن ذلك ما كان إلا نتيجة لاستعمال المنتج المعلن عنه ؟!
بعد ثلاث سنوات ، وفي الفترة التي قضيتها متدربا في أحد كبرى الشركات الهندسية في "فيينا" ، استعدادا لعمل مشروع التخرج المذكور، بعد عودتي من "فوبرتال" ، كنت أسكن بجوار صالة سينما "كولوسيوم" Kolosseum في الحي التاسع .
دأبت تلك الدار، لمدة عام كامل ، على الإعلان عن عرض ثان لفيلم المخرج "أوتو بريمينجر" Otto Preminger ، عن رواية"ليون أوريس" Leon Oris.. "إكسوداس" Exodus .. "الخروج" .
لم أكن قد شاهدت الفيلم في عروضه الأولى ، وإن كنت قد قرأت الكثيرعنه . وكان ذلك مما حفزني على قراءة الرواية (من منشورات دار"أرض الدانوب" Donauland ) بالرغم من طولها ، وبالرغم من تواضع لغتي الألمانية آنذاك .

* * *


طوال أكثر من ساعتين ، وهي مدة عرض الفيلم ، كانت تتناهى إلى مسامعك همسات المشاهدين ، ونهنهات الباكين ، وشهقات المندهشين، وآهات المنفعلين، وتعليقات المستنكرين ، وتصفيق المتعاطفين مع أسطورة "الروّاد" وأوهام ازدهار الصحراء الخالية المجدبة على أيديهم وإقامة دولتهم ببذل الدم والعرق والدموع .
شاهدتَ الفيلم مرة أخرى ، وثالثة ، ورابعه .
وفي كل مرة ، كان الإقبال يتزايد . ويخرج المشاهدون وكأنما أجريت لكل واحد منهم تلك العملية التي يسمونها : Brain Washing "غسيل مخ"!
أمارات "التغيير" بادية عليهم . كنت تراقب تلك الأشياء التي جسدت أمامك مقولة أن "التغيير" هو "غاية الفنون وهدفها" .. وأن السينما "أهم الفنون" .
"إكسوداس" .. (وغيره من الأفلام السينمائية الأخرى التي دأبت على تكرار نفس القصة) .. قصة شعب أعزل يعاني من اضطهاد قوى الشر، التي تقترف جرائم القتل الجماعي ضده تارة ، وتحول دونه و"العودة" إلى أرضه تارة أخرى (!)
ثم تعلن ، قوى الشر تلك ، تقسيم أرضه وإعطاء جزء منها إلى فئة من البدو المتوحشين ، الذين نراهم وهم يحرقون الزرع ويقتلون المواشي ، ويكرّون .. ويفرّون .. مولولين كما
" الهنود الحمر" في الأفلام الأميريكية.
لكنهم ، "أبناء شعب الله المختار" ، بإيمانهم وتضحياتهم وتضافرهم وتمسكهم بحضارتهم (!) ، بعد سنوات طويلة من عناء القهر والظلم ، استطاعوا أن يحققوا النصر ويعلنوا "استقلال" بلادهم وقيام دولتهم المسالمة ، التي تستحق العطف والتأييد ، لأنها قائمة على الحب والديمقراطية وسمو المباديء والأهداف !
كل ذلك ، بلغة سينمائية عالية ، وأداء متقن مقنع لممثلين لهم مكانتهم العالميه ، "بول نيومان" و "إيفا ماريا سينت" ، ومشاهد مؤثرة توفر لتنفيذها كل الإمكانات التقنية بحساب دقيق .. أو .. بدون حساب .

* * *


لا أبالغ كثيرا حينما أقول أنني كدت ، أنا الفلسطيني المشرد ، أن أتأثر بما رأيت وسمعت ، أو أن أتعاطف للحظات معه ، أوعلى الأصح مع تلك الحالة (!)
نقطة التحول في حياة المرء، كما يقول الفيلسوف الإجتماعي الألماني "فرديناند تونييس"، تعتمد في غالب الأحيان على مصادفة لا تلبث أن تهيء لأوضاع معينة ليست في الحسبان من شأنها أن ينفعل بها المرء سلبا أو إيجابا فيكون نتيجة هذا الإنفعال إتخاذ قرار يحدد مسار حياته أو يؤثر في علاقاته .
كان هذا الفيلم (مع غيره من شاكلته) هو نقطة التحول في حياتي . وقد اتخذت قراري ببساطة متناهيه . بل وجدتني مرة أضحك ، وأنا أسأل نفسي، ساخرا ، عن جدوى دراستي لـِ فن"العمارة الداخلية".."الديكور"!
فما دمت أدعي ارتباطي بقضيتي ومصير شعبي ، فما هي حاجـتة لهذه الرفاهية وهو، في معظمه ، يسكن المخيمات ، التي سوف تتحول ، على أحسن الفروض ، إلى معسكرات للفدائيين (؟!)

صحيح أنني أحببت "السينما" منذ صباي المبكر .
وصحيح أنني، في صباي المبكر، أو في سنوات مراهقتي ، طالما حلمت بأن أصبح مخرجا سينمائيا .
لكنني الآن أصبحت أعرف سببا أو هدفا لهذا الاختيار .
أعرف الآن ، على سبيل المثال ، مدى حاجة الكثيرين من البسطاء أمثال من شاهدوا فيلم"الخروج" ، في كل بقاع الأرض ، إلى أفلام تتحدث عن الوجه الآخر للحقيقه .

تذكرت ما قاله البقال اليهودي النمساوي الكائن دكانه في شارع "هاينه" المجاور لمسكني بالحي الثاني ، والذي كان قد عاد مؤخرا للاستقرار في بلده "فيينا"، بعد أن تركها مهاجرا إلى إسرائيل في أوائل الخمسينات .
قال لي بأسلوبه الساخر الممرور، بعد أن عرفت قصته ، بعد عدة مرات تبادلنا فيها حديثا وديا :
- لو أن "عبد الناصر" اتخذ لنفسه وزير إعلام ذكي ، مثلما فعل "هتلر" مع "جوبلز" ، ليُطلع العالم على الوجه الآخر للقضية الفلسطينيه ، لكان ، على الأقل ، قد وفرعليّ مشقة الإنتقال إلى "أرض اللبن والعسل" تلك .. لكي أتبين الحقيقه .
الإنسان البسيط يصدق ما يسمعه أو يقرأه أو يراه من "حقائق" أجهزة الإعلام ، وهوعندما يعرف أن للحقيقة أكثر من وجه ، عندها يبدأ بالتفكير .

ثم أردف قائلا :
- الإعلام .. الإعلام الذكي يا عزيزي .. هذا هو ما ينقصكم !

* * *




"باول يوزيف جوبلز" هو القائل :
"إكذب .. ثم إكذب .. ثم إكذب حتى يصدقك الناس !"

والقائل :
"من يقول الكلمة الأولى للعالم هو دائما على حق !"

وهو، أيضــا ، صاحب المقولة المشهورة :
"أتحسس مسدسي كلما اخترقت أذني كلمة ثقافة !"


* * *



( قطـــــــــــــــــــــــــــع ! )

كنت أثناء استكمال عملي كمتدرب في "فيينا" ، بعد عودتي من ألمانيا ، قد قرأت عن مسابقة للقبول في قسم الدراسات العليا للسينما في أكاديمية الموسيقى والفنون التعبيريه .
في موعد التقدم للمسابقة ، وجدتني ، منساقا بقوة خفية ، أستأذن رئيسي في العمل ، الذي كان يكن لي كثيرا من المودة ، للخروج لقضاء أمر هام .
وبعد بضعة أيام ، حمل إسمي رقم 138 في قائمة المختارين للتقدم لامتحان القبول للدراسة العليا في أكاديمية الموسيقى والفنون التعبيرية – فرع السينما والتلفزيون .
ولدى انتهاء فترة التدريب ، واقتراب موعد إبتداءالسنة الدارسية، ودعني رئيس الشركه ، المهندس ذائع الصيت ، طيب الذكر، متعدد الألقاب ، " هانس هوبينبيرجر" HansHoppenberger Pro.Dr.Dr.Hc.
بتمنياته لي بمستقبل باهر. ولم يتردد في عرض خدماته ودعوتي للعمل لديه ، في شركته الهندسية ، بعد تخرجي في نهاية ذلك العام . ثم أخذ ، بعد أن أثنى على مشروع "المركزالثقافي الفلسطيني" المذكور، والذي كنت أقوم بإعداده للتخرج ، يحدثني بإسهاب عن "المنشآت" التابعة لمشروع السد ، التي تعاقدت شركته بشأنها مع شركة "سيمنز" Siemens الألمانية لتنفيذها في سوريا . وقال أنه كان "يدّخرني" للسفر والمشاركة مع البعثة النمساوية الألمانية (!)**
ولشدما كانت دهشة رئيس الشركة حينما عرف أني سأواصل الدراسة في مكان آخر. إلا أنني ، تخفيفا لتلك الدهشة واتقاء لنظراته التي كانت تتهمني بالجنون ، ادعيت أنني سوف أتخصص في هندسة ديكور السينما . وهذا مما جعله يزودني برسالة إلى صديقه وزميل دراسته
المهندس البروفيسور "فيبَر" Weber ، رئيس ذلك القسم ، ونائب عميد معهد السينما في الأكاديميه .
كما وأنه أخذ يلح ويؤكد لي أن لا أتردد في العودة إلى مكتبه في أي وقت لكي أعمل لديه بنظام الـPart time ، إذا اقتضتني الحاجة المادية إلى ذلك .

والحقيقة أنني في غمرة مروري من خلال لجان التصفيات المتعددة ، نظرا لضخامة عدد المتقدمين لها ، والتي كان يرأسها البروفيسور "فيبَر" نفسه ، وشعوري باهتمامه بي وتشجيعه لي، لمجرد معرفته بخلفيتي الدراسيه ، فقد نسيت أمرالرسالة ، فلم أسلمها له إلا بعد صدور النتيجة ، مما زاد من احترامه لي ، كما أخبرني بعد ذلك .
حاول جاهدا ، بشخصيته المريحة وأسلوبه المرح ، أن يشدني إلى قسم "الديكورالسينمائي" الذي يديره ، لكنني كنت قد عقدت العزم على التخصص في "الإخراج" .
___________________________________________________
** ولم يفوِّت أخي "عابد" الفرصة ، كعادته ، لتعليقاته الساخرة .. ومنها :
- .. والله و صرنا يا خويا ياغالب من ضمن "الخُبرا الأجانب"!


* * *


أتذكر سؤالا وجهه لي أحد الأساتذة في إحدى اللجان الأولى । كان ذلك هوالسؤال التقليدي الذي يدورحول السبب الذي جعلني أقرر دراسة السينما والتخصص في الإخراج السينمائي بالذات . قلت باختصار وبدون إمعان في التفكير ॥ وبالحرف الواحد :

- أنا فلسطيني.. لاجيء .. صاحب قضية.. تطلقون على أمثالي وصف Staatenlos " بلا وطن"، أو"غيرمعين الجنسية". ذلك نتيجة لإحتلال بلادي فلسطين من قبل اليهود الصهاينة الذين جاءوا إليها من أنحاء مختلفة من العالم . ولا أجد ما يلاءم قدراتي للدفاع عن قضيتي أو النضال من أجل استرداد حقي والعودة إلى داري، التي ولدت فيها ، في بلدي "القدس" ، أفضل من هذه " اللغه" كسلاح .
هذه هي قناعتي ، أما عن مدى استعدادي أو صلاحيتي لذلك ، فهذا ما سوف تقررونه أنتم .

واستدرجتني ملامح أحد الأساتذة الممتحنين ، البروفسور"فينجه" Hans Winge ، إلى استكمال توضيح وجهة نظري :
- .. استطاعوا أن يقنعوا العالم بأن فلسطين هي "أرض بلا شعب.." .. .. إلخ
وعلينا ، نحن الشعب الفلسطيني ، أن نؤكد للعالم ، بشتى الوسائل ، أننا كنا وما زلنا موجودين . ذلك قبل أن تنجح مساعيهم ، بشتى وسائلهم ، لتنفيذ خططهم لطرد البقية الباقية منا من أراضينا في فلسطين .

أضاف البروفيسور "فينجه" سائلا :
- هل أفهم من ذلك أن اهتمامك منصب على عمل الأفلام الوثائقية والإعلامية ؟
قلت :
- الذي أعرفه بكل تأكيد أن لنا "روايتنا" التي يجهلها العالم ، ولا بد لنا من أن نرويها له بوضوح ، وبالشكل الملائم .
هذا .. ولابد من أن أعترف بأنني أميل إلى الشكل الروائي .. "الدراما" .. لقدرته على توصيل الفكرة .

* * *


في أماكن أخرى من هذه "السيرة".. سوف تتردد في خاطرك تلك الكلمة التي قالها البروفيسور"فيبَر"، بعد مرور سنوات الدراسة ، وعقب انتهاء مناقشة فيلم مشروع التخرج في الأكاديمية .
قال بالحرف الواحد :
- .. وأضم صوتي إلى صوت هيئة الزملاء، بمنح "الزميل"* "شعث" دبلوم "الإخراج السينمائي"، وكذلك دبلـــــوم
"السيناريو والدراما التلفزيونيه" بدرجة "الإمتياز بالإجماع" ** ।

______________________________________
(*) كان البروفيسور يخاطبني دائما بـ "الزميل" باعتباري مهندسا زميلا له في الأصل .
(**) وذلك ما يقابل عندنا "الامتياز بدرجة الشرف" .


ثم أضاف بلهجته التي دأبت على إشاعة المرح في حضوره :
- فلقد جاءنا وهو يتقن اللغة الإنجليزية إلى جانب لغة الأم ، العربية ، وها هو يغادرنا وهو يتقن ، علاوة على اللغة الألمانية ، لغة أخرى عالمية .. هي اللغة السينمائية .
ولا يسعني بهذه المناسبة إلا أن أهنئه .. واقول أيضا ..
"هنيــــئا لأهله ولشعبــــه بـــــه !"


كنت تعرف مسبقا تقديرات نجاحك . لكنك فوجئت بالكلمات الأخيرة التي ضخمت إحساسك بالمسئولية وأضافت إلى قاموسك معنى آخر لمعاني الوطن والإنتماء إليه .
خرجت بعد سماعك لتلك الكلمات مملوءا ثقة وزهوًّا .. وآمـــــــــــــــــــــــــــــــالاً .
يغمرك الإحساس بالقوة.. واليقين بأنك قد أحسنت الاختيارعندما قررت أن يكون سلاحك لخدمة قضيتك هو .. السينما .
هأنت قد خطوت الخطوات الأولى في الطريق الطويل .. طريق الألف ميل !
هأنتذا قد حققت ما سعيت إليه.
هأنت قد امتلكت "بندقيتك".
لم يعد أمامك سوى الحصول على "الذخيرة" .. الخبرة العملية.
فالسينما من أكثرالفنون قدرة على فتح باب التواصل بين الأمم . و"سينما فلسطينية"، هي القادرة على فتح الأبواب الموصدة من حول الإنسان الفلسطيني والخروج به إلى آفاق رحبة تجعله يعود إلى الوجود الفعال ، وإلى معاودة المشاركة الفعالة ، مستقبلا ، في بناء الحضارة الإنسانية .

ألم تتعلم أن الفنان الحقيقي هو من يحرص في إبداعاته على تحديد ملامح أمته ، وأنه بالتالي من أبرز حماة الهوية ؟


* * *


لن تنسى ذلك الإحساس الذي داهمك وطغى على مشاعرك وكاد أن يفقدك فرحتك لولا أن ساقتك قدماك إلى أقرب مكتب للبرق والبريد حيث استطعت أن تدبج باللغة الإنجليزية برقية مختصرة جدا لأخيك "عابد" في السعودية .. ذيلتها بتوقيع راق لك في حينها :
"المخرج السينمائي الفلسطيني" !
وفي اليوم التالي فقط ، بعد مرور أطول ليلة سهد في حياتك ، اكتملت فرحتك ، عندما صافحت عينيك برقية أخيك "عابد" ومن بعدها برقيات والديك وشقيقاتك تحمل لك تهاني النجاح .

* * *

هذا ، وأظنني لن أنسى ما همس لي به البروفيسور "فنجه" Winge ، الذي لم أشك لحظة في نبرة الإخلاص في كلماته :
- .. لقد قمنا بتعليمك وتأهيلك لأن تصبح مخرجا سينمائيا كما كنت تسعى . وأشهد أنك أبديت استعدادا واستيعابا لا بأس بهما لما حاولنا أن نعطيك إياه من علم و"تكنيك" . ولكن .. عليك أنت أن تطور قدراتك بجهدك بحيث تمتلك ما لا نستطيع ، ولا أحد يستطيع أن يعطيك إياه .. وأعني ...

وقام البروفيسور بأداء حركات وئيدة بمرفقيه ، كمن يحاول أن يشق طريقه وسط الزحام ..
ثم أكمل :
- .. Elbow Technique .. تكنيك إستعمال المرفقين .. والتزاحم بالمناكب .. فأنا ، يا بني ، أخشى أنك تفتقد لصفة مهمة في مجال عملك وهي صفة الـ .. Fighter المقاتل !

* * *




مقاتل ؟!

أظنك قد اخترتَ "السينما" كسلاح توسمتَ فيه وسيلة تكفيك شرالقتال .. فأي قتال هذا الذي تحتاج إليه وقد شهد جميع أساتذة الأكاديمية بامتلاكك للغة السينما وقدرتك على ممارسة هذا الفن ؟!
أي هراء هذا يا سيدي البروفيسور ؟!
وهل يتعين على المرء أن يقاتل من أجل أن يعطي ؟!


* * *


تمثيل النمسا ॥ (!)

كان مشروع التخرج من أكاديمية السينما عبارة عن فيلم روائي قصير، أسميته "حكايه" Episode ، مدته 20 دقيقه ، وهي الحد الأقصى للطول المتاح .
كتبت له السيناريو، عن القصة القصيرة ، " بين قطارين "، للكاتب الألماني "فيرنر كلاوزن" Klausen Werner .
قصة حب عاثر، لم يستمر بسبب الخلافات الفكريه الأيديولوجية التي عادة ما تؤدي إلى طريق مسدود، بين الطالب الشاب وزميلته ، التي سرعان ما التقت بشخص آخر واستقرت معه في بلد آخر . لكن أواصر الصداقة بقيت قائمة بينهما عن بعد، في حدود تبادل الرسائل أو بطاقات التهنئة بالأعياد والمناسبات .
في أحد الأيام ، بعد مرورعامين على فراقهما ، يتسلم الشاب بطاقة منها ، تخبره فيها بأنها ستقوم ، خلال رحلة عودتها من إجازتها ، بتغييرالقطار في مدينتهما التي مازال يقيم فيها (والتي شهدت سنوات حبهما) وأن هناك بضع ساعات بين موعد القطار الذي ستصل به والقطارالذي ستواصل به رحلةعودتها ، وتسأله عن إمكانية اللقاء به خلال تلك الساعات .
ويروي الفيلم .. بعد "فلاش باك" سريع يجسد ذكرى الأيام الجميلة من الماضي الذي لا سبيل إلى نسيانه .. ما يجري بينهما في تلك الساعات القليلة ، منذ وصول قطارها ، واستقباله لها ، حتى موعد مغادرة قطارالعوده ، بعد فراق دام لمدة سنتين .
لحظة اللقاء . ولحظات الصمت والحرج من الحديث عن الماضي الذي مازال يحتل مكانة في قلبيهما . والنظرات المختلسة أثناء إجابة أحدهما المقتضبة عن سؤال جاهد الآخر لصياغته بحيث يبدو طبيعيا لا يخفي وراءه قصدا ما . المحاولات اليائسة لكل منهما في التسلل إلى أعماق الآخر. أسئلة مختصرة وإجابات مبتورة تحكي في مجموعها قصة تكاد تكون مكررة ولكن بتفاصيل مختلفة. ومحاولات الهروب إلى أماكن أخرى غير تلك الأماكن التي تعيدهم إلى اجترار الماضي . ولحظة الفراق التي كان لا بد من أن تأتي ، بالرغم من حنين كليهما الجارف إلى ذلك الماضي ، ورغبتهما الدفينة في انبعاث حبهما القديم من جديد .
ثم تأتي اللقطة المكبرة لوجه الفتاة الصامتة .. يبدد هذا الصمت ، بالتدريج ، صوت القطار المسافر .. ويختلط مع صوته ويحل محله صوت موسيقى كونشيرتو "رحمانينوف" الثاني للبيانو، التي غلفت لحظات الفيلم منذ بدايته . وينتهي الفيلم بلقطة علوية بعيدة للقطار وهو يخرج من الصورة لتبقى الخطوط الحديدية المتوازية والمتقاطعة خلفية للعناوين ، وتظل الموسيقى تغطي نهاية "عناوين الفيلم" حيث ينتهي "الكونشيرتو" مع الإظلام التدريجي للصورة .
كان أكثر أعضاء لجنة التقييم حماسا للفيلم ، هو أستاذ الإخراج ، الذي طالما حذرني ونصحني باختيار موضوع آخر لمشروع التخرج ، إشفاقا من صعوبة تنفيذ تلك الفكره . فلقد أخذ يكرر القول بأن السيناريو الذي قدمته يحتوي على تفاصيل تهتم بوصف حالات نفسية ، وتصوير لحظات صامتة من شأنها أن تعبر عن أحاسيس تكمن في أعماق الشخصيتين ، وهي مشاهد لا يتمكن من تنفيذها سوى مخرج متمكن ذو تجربة طويلة . بل إنه (رأفة بي) قال في أحد المرات التي حاول فيها إقناعي بالبحث عن موضوع سهل ومضمون ، على مسمع من بقية زملائي الطلبه ، أن هذا الموضوع لا يجرؤ على تناولـه سوى مخرج متمكن مثل "أنتونيوني" ، مثلا !
اللـــــــــه !
ما أروع أن يقارنك أستاذك ، أو يشبِّهك ، إذا ما نجحت في تنفيذ فيلمك ، بمثلك الأعلى .. المخرج الشهير "مايكل أنجيلو أنتونيوني" !
كان ذلك مما زادك تصميما وإصرارا على التمسك بالسيناريو .
و كان أستاذك هذا ، بعد ذلك ، هوأحد أعضاء "لجنةالإختيار" المنوط بها ترشيح الفيلم الذي سوف يمثل النمسا في مهرجان سينما الشباب "سينيستود" Cinestud67 في أمستردام - هولندا .
ذلك بالرغم من المعارضة الشديدة من قبل بعض الأعضاء الآخرين ، لكونك أجنبي لا يحق لك تمثيل النمسا .
لكن الإعتبارات الفنية رجحت فيلمك "حكايه" Episode .
ووصلتَ أمستردام ، ممثلا للنمسا في المهرجان المذكور ،
وأنت لا تملك إلا الاحترام والتقدير ، إضافة إلى الآخرين ، لتلك الأستاذة النمساوية الفاضلة Dr.Agnes Bleier Brody التي بذلت جهدا لا ينسى من التأييد والدعم ، والتي نمى إلى علمك بعد ذلك أنها .. يهودية الديانة (!)

وهناك .. ظهرت المشكلة الثانية في هولندا ، بلد المهرجان ، حيث ترجح كفة اعتبار الفيلم يحمل جنسية مخرجه . وعندما بحثوا في أوراقك الرسمية ، وجدوا أنك تحمل صفة "غير مُعيَّن الجنسيه" !
بل ذهب بعضهم إلى اعتبارك إسرائيليا لمجرد وجود اسم "القدس" في خانة مكان الميلاد !
وفي حديث لإحدى الصحف ، حرصت على أن تعرف نفسك كلاجيء فلسطيني تحمل وثيقة سفر مصرية ، وقلت أن مكان إقامتك الذي تنوي فيه أن تبدأ ممارسة العمل ، والتسلح بالخبرة العملية ، بعد أن أتممت دراستك في النمسا ، هي القاهره . ويبدو أن الأمر قد اختلط على ناقل الخبر، ففي اليوم التالي ظهرت الصحيفة بعنوان بارز :
"وصول الدولة رقم 28 من الدول المشتركة في المهرجان .. وهي مصر."
وأخيرا ينتهى الأمر بان يعتبر الفيلم في سجلات المهرجان فيلما نمساويا .

جدير بالذكرأن مديراً لمهرجان أميريكي ، كان من ضمن أعضاء لجنة التحكيم ، قد طلب منك المشاركة بفيلمك في مهرجانه المشابه في الولايات المتحدة الأميريكية ، باعتباره فيلما يحمل جنسية مخرجه । وعندما أبلغته أنك ستكون ، وقت انعقاد المهرجان ، في القاهرة ، وعد بإرسال كتاب لوزير الثقافة المصري يطلب فيه مشاركة الفيلم في المهرجان الأميريكي .

* * *


ووجدت نفسك تقف أمام كاميرات التلفزيون وميكروفونات الإذاعة (والبرنامج العربي للإذاعة الهولندية) ومندوبي الصحف . لكن شعورك بمسئولية إختيارك والدفاع عن وجهة نظرك لم يبدأ إلا عندما واجهت طلبة معهد السينما في أمستردام بعد العرض الخاص الذي أقيم لهم .
(مارسوا مع عملك ما جعلك تفهم المعنى الحقيقي لـكلمة "تشريح".)
ومن أشد انتقاداتهم كانت مواجهتك بسؤال عن سبب استخدامك لموسيقى "رحمانينوف" التي غلفت مشاهد الفيلم والتي "باتت مستهلكة لكثرة استخدامها في الأفلام الرومانسية بمختلف جنسياتها".. هكذا قال أحدهم .
ولم تستطع أن تقنعهم بأنك في حقيقة الأمر قد بحثت طويلا إلى أن وجدت القصة التي تلائم موسيقى "كونشيرتو البيانو" المذكور .. وليس العكس .
كنتَ شديد الإيمان بأن التفاعل بين الصورة والموسيقى في السينما يخلق ما يسمى بالصورة السمعية .. أو الأغنية البصرية ..

ولدى عودتك إلى "فيينا"، وجدت في انتظارك جائزة أخرى ، وهي شهادة "تقدير للإبداع الفني"، مع جائزة ماليه ، صادرة من وزارة التعليم العالي النمساويه .
هذا .. بالإضافة إلى منحة تدريبية مدفوعة الأجر في تلفزيون النمسا ، لمدة ستة أشهر :
تبدأ في 15/3/1967 .. وتنتهي في 15 / 9 / 67 .

* * *


وأما الجائزة التي لم أكن أتوقعها ، فهي السيارة "الأوبل البيضا" التي أرسل لي ثمنها أخي "عابد" .. كإعتذار ..
أو كما كتب لي مازحا .. "رد اعتبار" !
قال لي أنه كان جادا عندما ظن بي الظنون .. ووصمني بأني دعيّ فشّار!

* * *


"موّال" معاداة الساميّه ..

لم يفت أعضاء الوفد النمساوي، وأنا أحدهم، أن يخصص يوما لزيارة معالم "أمستردام"، مدينة "ريمبراندت" Rembrandt و"جوخ" Goch .. ويوما آخر لزيارة متاحفها الفنية التاريخية .
كان ذكرالفنانين الهولنديين كثيرا ما يتردد في محاضرات"إدارة التصوير"، طوال السنوات الدراسية الماضية ، لما لأسلوب كل منهما من علامات بارزة في معالجة "الضوء" و "مصادرالإضاءة"، ولحظة انبثاق النورلتكون مرادفا للحظة انبثاق الوعي، التي ميزت عصر التنوير واليقظة ، في أعمالهم .
أذكرأنني في ذلك اليوم توقفت طويلا أمام لوحة "حراس الليل" الشهيرة لـ "ريمبراندت"، في المتحفالوطني، مما جعل بقية الزملاء يسبقونني إلى جناح آخر بدون أن ألحظ ذلك . لم يبق منهم سوى"هانيلوري" التي كانت تتأمل اللوحة بإمعان هي الأخرى . وعندما هممت بترك المكان ومواصلة السير استرعى إنتباهي وقوف رجلين بملامح وهيئة ليست بالغريبة عني . كانا يرتديان الزي المميز بـالـ "ساكو"، المعطف الأسود الطويل ، والقبعة السوداء ذات الحواف العريضة ، يتدلى سالفاهما المبرومان واللحية إلى كتفيهما والصدر . بادر الإثنان في الحديث إلى زميلتي حديثا سمعت بدايته ولم أجد في نفسي رغبة لسماع بقيته .
تركت زميلتي وتجولت في الأركان المجاورة وعدت إليها عدة مرات وهي ما زالت تستمع إليهما بانتباه وتهز رأسها موافقة على كل ما يقولانه. وبعد عدة جولات وعودات مني محاولة إعطاءها مبررا للتخلص من حالة الأسر التي استسلمت لها ، أصابني اليأس وحاولت أن ألتحق ببقية الزملاء الذين كانوا يقتربون من مكاننا . سألوني عن "هانيلوري" ، فأجبت مشيرا إليها :
- .. يهوديـــــان أحاطا بها يحاولان إقناعها بأن"ريمبراندت" كان يهوديا أيضا ..
فوجئت بزملائي يضعون أيديهم على أفواههم علامة وجوب إلتزامي بالصمت !
و همس أحدهم لي مفسرا ومؤنبا :
- هل تريد أن توقعنا في مصيبة ؟
ألا تعلم أن مجرد وصفك لأحدهم بكلمة "يهودي" يكفي لأن توجَّه إليك تهمة "السب العلني".. مما يجعلك تحت طائلة القانون ؟!
- سب علني ؟!
- نعم..لأن استعمالك لكلمة "يهودي" تشي بنية مبيتة ، متوارية ، لإهانة الشخص المخاطَب والانتقاص من قدره .

وهمس لي زميل آخر :
- ألا تعلم بأن الوسيلة الجديدة لإسكات العقول الناقدة وتحجيم حرية الرأي عندنا هي الإتهام بمعادة السٌامية ؟!
وأن هناك في بلادنا قانون يعتبر "معاداة السامية" جريمة تصل عقوبتها إلى إلى السجن عشرة سنوات ؟!
* * *

كأنك لم تستوعب ما قيل ، لأول وهلة ، وإن كنت قد لمست قبل ذلك كيف نجحت أجهزة الدعاية الصهيونية في تكريس الكثيرمن المحاذير وخلق العديد من "التابوهات" الخاصة باليهود واليهودية ، ومحاولة اصطياد أي تصريح أو موقف له ملامح المعادة للسامية ، ومواصلة وضع اليهود في كل مكان في حالة الإحساس بالخطر ، لكي يحرضونهم على السعي للخلاص .. والهجرة إلى "إسرائيل" .
وأعادك هذا إلى أحاديث المهندس الألماني "شولتس" عن ألاعيب اليهود وخرافات"اللا سامية".. "معسكرات الإعتقال" و"أفران الغاز" و"الهولوكوست".. و.. و"مصانع الصابون".
أصبح ذهنك ، لدى ذكر تلك المصانع ، التي كان يفترض أن تنتج صابونا من "شحوم" اليهود ، مهيأ لاستدعاء صور معسكرات الإعتقال المكتظة بسجناء أقرب ما يكونون إلى "الهياكل العظميه" المكسوة بالجلد (!) .
كما أمسيتَ تتذكر شخصية "زيطه" صانع العاهات في رواية "زقاق المدق" لكاتبنا "نجيب محفوظ"، كلما ورد إلى خاطرك ذكر "أجهزة الدعاية الصهيونية" .
هناك في اللغة الـ "ييديش" Jidisch ، وهي اللغة التي يتداولها "الأشكيناز"، يهود أوروبا الوسطى و الشرقية بالذات ، والمشتقة من عدة لغات أهمها الألمانية والعبرية القديمة والآرامية والسلافية ، هناك كلمة لا يوجد كلمة أخرى مرادفة لها في أي لغة من لغات العالم ، وهي :
"خوتسباه"Chutzpah التي تطلق على الولد الذي يقتل أبويه لكي يستدر عطف الناس لكونه " يتيم الأبوين" .
إن وجود مثل هذه المفردة في القاموس اليهودي لهو دليل على تأصل "ثقافة" الوصولية و الإنتحال والتزوير والنصب والإبتزاز لديهم .
* * *

أما عن زميلتي "هانيلوري" ، التي تمكنَت أخيرا من أن تنجو من أسر الرجلين اليهوديين ، فقد أجابت عن استفساري عن سبب استسلامها لهما ، وموافقتها على كل ما يقولانه بالرغم من يقيني بأنها تعرف مدى ابتعاده عن الصواب ، بترديدها للموال المشهور :
-॥ وهل كنت تريدني أن أخالفهما الرأي ليكون مصيري أن أتهم (والعياذ بالله) بأنني"معادية للساميه" ؟!


* * *