العبـــــــــــــور ..
كان ، وما زال ، شأن الكثيرين ، من العبث أن أحاول وصف مشاعري إزاء حدث جلل مثل إنتصار حرب أكتوبر 73 .. كتابةً . وكانت المسألة في نظري تتجاوز معنى كسب حرب ، أومعركة في حرب ، إلى المعنى الأشمل وهو "العبور" .. العبور إلى بر الكرامة . فقد كان انفعالي لا يدانيه سوى قدرة الكاميرا على التعبيرالطازج ، بالصوت والصورة ، عن تلك المشاعر التي غمرتنا وأنقذتنا من مستنقع عارالهزيمة .
أول ما توارد إلى خاطري هو ذكريات الأيام الأولى للهزيمة التي تعودنا أن نطلق عليها إسما آخر هو "النكسة".
تمنيت أن أطير إلى "فيينا" لكي أدعو صديقي "يوهان" للإحتفال ، مع بقية أفراد الشلة الباقين هناك ، باسترداد الكرامة المفقودة في نفس المكان الذي شهد لحظات إكتشافنا لمدى قسوة مرارة الإحساس بالهزيمة والمذلة .
تمنيت أن أرى صديقي الإسباني"ضيف الله" وهو يستعيد شعوره بالفخر والمجاهرة باعتزازه ببقايا الدماء العربية التي تسري في عروقه ، كما كان يصرح دائما .
تمنيت أن أنظر مرة أخرى في وجه ذلك اليهودي الصهيوني المعتوه الذي قال لنا ذات يوم ، في إحدى ضواحي فيينا ، بالعربية الفصحى :
"من لا يعرف السباحة .. يترك الملاحة" .
مجرد نظرة .. ولن أبصق في وجهه .
تمنيت أن أرى “ماريا” لكي أزف إليها إشراقة الأمل في العودة إلى القدس .
* * *
كنت قد اغتنمت فرصة مرور عضو اللجنة التنفيذية لقيادة الثورة "أبو إياد" ، ووجوده في مصر، أواخر سبتمبر 73 ، لأطلب منه تمويلا لفيلم تسجيلي عن معركة العبور "القادمة حتما" في يوم ما ليس ببعيد ، بعد أن أعادت إلينا "حرب الاستنزاف" الأمل في استرداد الكرامة. لمعت عيناه ، مما أوحى لي بأنه كان يعرف أكثر مما نعرف ، ولم يتردد في إصدار التعليمات لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة .. بما يسمى "كارت بلانش"!
لقائي وحديثي مع "أبو إياد" خلق عندي ذلك الشعور الذي يشبه شعور القطط قبل وقوع الزلزال .
هل كانت خواطر"أبوإياد" التي طرحها وتلميحاته التي باح بها إستشرافا أو نبوءة بما سيكون؟ أم أنها مجرد تداعيات وأفكار ساقها من قبيل التحليل والتفسير، كما يفسرالبدوي تحليق الطائر فوق رأسه بوجود ثعبان بالقرب منه ؟
أم أنه ، يا ترى ، كان يعرف حقا أكثر مما نعرف ؟!
وبادرت منذ اللحظات الأولى للعبور، وفرحتي لا تدانيها فرحة ، في التقدم للحصول على تصريح أمني للتصوير في مسرح العمليات من إدارة التليفزيون ، إتفاقا مع زميلي المصورالسينمائي وعضو جماعة السينما الجديدة "محمود عبد السميع". ولكنني حُولت من قبل التليفزيون إلى "هيئة الإستعلامات" للحصول على التصريح المطلوب ، لكوني لست مصري الجنسية .
وهناك في "هيئة الإستعلامات" أفادوني بأن "التصاريح" التي يصدرونها هي تصاريح خاصة بالمراسلين الأجانب . أما أنا فينطبق علي ما ينطبق على إخواني المصريين بحكم إقامتي الدائمة في مصر، وكوني موظفا في أحد أجهزة الدولة .
في المكتب المختص في "التليفزيون" كرروا إفادتي بأن التصاريح التي يصدرونها هي تصاريح خاصة بالمصريين ، وأن أوراقي الرسمية تقول غير ذلك .
ويبدو أنني قد بدأت ، من حيث لا أدري ، بمزاولة "الجولات المكوكية" بين "هيئة الإستعلامات" و "هيئة التليفزيون" ، قبل أن يقوم "صديقي كيسنجر" بتكريس هذا الإصطلاح .
التليفزيـــون : يا حضرة إنت صحيح زميلنا ..وما فيش فرق بين فلسطيني ومصري । لكن الجهه المختصة بالسماح لك هي "هيئة الإستعلامات" وبس !
الإستعلامات : يا أستاذ إحنا بننفذ لوائح .. وحضرتك لا تنطبق عليك هذه اللوائح .
التليفزيـــون : ما تتعبشي روحك .. وروح وما تتنقلشي من عندهم إلا ومعاك التصريح .. إيه الكلام الفارغ ده ؟!
الإستعلامات : الراجل اللي قال لك الكلام ده مش فاهم شغله .. خليه يسأل اللي أعلى منه !
التليفزيــــون : مش حضرتك بتقول إن الفيلم اللي رايح تصوره مش تبع التليفزيون .. طيب يبقى التصريح لازم يطلع من "هيئة الإستعلامات" .. والا إيه ياخواننا ؟
الإستعلامات : ما نقدرشي نتعامل معاك كأجنبي وحضرتك فلسطيني وموظف في التليفزيون كمان .. هو فيه فرق بين مصري وفلسطيني يا عالم ؟!
التليفزيــــون : روح قول للراجل "الجاهل" ده يشوف شغله وبلاش تضييع وقت !
الإستعلامات : ………
التليفزيـــون : ………
الإستعلامات : مش حضرتك كنت عاوز تصور "العبور" ؟ طب ما إحنا عبرنا ॥ وخلاص !
كانت هذه مجرد "عينه" مختصرة ومنقحة من تلك الحوارات فقط ..ولقد استغرقت في الواقع أياما كانت الأحداث فيها قد تطورت إلى مرحلة "الجسر الجوّي" ..و"الثغرة" ..والقبول بقرار الأمم المتحدة بوقف القتال ॥ والمفاوضات على "فك الإرتباط" ..إلخ
وكان زملائي في التلفزيون يتابعون جولاتي المكوكية ويعلقون على نتائجها بما لا يسرّ الخاطر।
* * *
أذكر هنا موقفا حدث قبيل الحرب ، في الوقت الذي كان فيه زملائي في "مراقبة التمثيليات" في مبنى التلفزيون يتندرون بحكاية الرئيس أنور السادات مع سنوات "الحسم" وأيام "الضباب"। فقد دأب صديقي الكاتب التلفزيوني البارز في حينها "جلال الغزالي" على أن يدير نقاشا يوميا حول الأحداث المتعاقبة بسرعة ، وخطر له أن يسألني أمام بقية الزملاء ، بصفتي أنتمي لطرف ربما يكون له رؤية أخرى ربما تكون أكثر وضوحا أو موضوعية ، عن الإحتمالات المتداولة .
حقيقة الأمر أنني لم أكن في يوم من الأيام مغرما بالإنغماس في أحاديث السياسة. وهذا لا يتعارض قطعا أو ينفي مقدرتي المتواضعة على فهم ما يجري من حولي، ومعرفة أسبابه وتحليلها ، أومقارنة التحليلات المتوفرة واستيعابها وتحديد مكاني منها والتكهن بالنتائج ॥ وهوما أصبح يسمى ، بلغة المحللين السياسيين ، بتصور "سيناريو" الأحداث . وكان تواجدي بين مجموعة من الأصدقاء المثقفين المصريين ، كتّابا وصحفيين وفنانين ، خارج نطاق التليفزيون ، كفيلا بتوفيرالأجواء التي تتيح وتسهل لي ذلك .
ومع ذلك قلت ، متأثرا بقراءتي الطازجة لكتاب "لعبة الأمم"، من تأليف رجل المخابرات المركزية الأميريكية "مايلز كوبلاند"، اشتهر في تلك الآونة التي أعقبت "النكسة" بالذات ، أن هناك "جهات عليا" ذات "مصالح" مصيرية في "المنطقة" ربما ترى أن حل مشكلة "التوتر" وإقرار "سلام" أو "استقرار" يكفي ويضمن الحفاظ على مصالحها لا يتأتى، فيما يتعلق بما تم التعارف على تسميته بـ "مشكلة الشرق الأوسط"، إلا بوجود "قائد بطل" ينقاد إليه العرب ، ومصربالذات . هذا البطل يمكن صناعته وتلميعه (على غرار طريقة صناعة النجوم في السينما الأميريكية ، بحيث يمكن من خلالهم ، بعد تألقهم ونجاحهم وتعلق الجماهير بهم ، تمريرالقصص المحشوة بما طاب لهم من الأفكار المبيتة) عن طريق نجاح أو إنتصار يحرزه في حرب قصيرة "محدودة" ، يمكن استدراج الطرفين لها ، لهذا الغرض . ثم لا تلبث هذه الحرب المحدودة أن "تتوقف" بعد حصول كل من الطرفين على إنتصارات أو مكاسب محسوبة تعقبها مساومات .. أو سمّها مفاوضات .. قد تؤدي في النهاية إلى النتائج المطلوبة من سلام و استقرار "محسوبين" في المنطقة .. أو قل .. حالة "لا حرب ولا سلم" !
وفي أحد الأيام السابقة لقرار الأمم المتحدة بوقف القتال ، وما زالت رحى الحرب دائرة ، عاود "جلال" سؤالي عن توقعاتي للأيام القادمة ، فما كان مني إلا أن أشرت إلى حديثي السابق مضيفا أنني لا أستبعد ، وإن كنت أتمنى أن أكون مخطئا ، أن تجري الأحداث بما يتفق مع "السيناريو" الذي ربما تكون تلك "الجهات العليا" قد وضعته .
قال"جلال" محتدا :
- والحرب اللي قايمه دلوقتي .. والعبوراللي حققناه .. وخط "بارليف" اللي تدمر .. مش معقول كل ده لعبة زي ما إنت بتقول . لأ طبعا ! الحرب راح تستمر…
قلت موضحا كلامي :
- مش أنا اللي بقول ! والحرب اللي قايمة والعبور اللي حققناه .. والجنود والضباط اللي واخدينها جد، وهم على يقين من أن العدو يمتلك مخزونا كبيرا من السلاح النووي ، وبالرغم من ذلك لم يترددوا في الهجوم ودمروا خط بارليف .. ولواء المدرعات الإسرائيلي الذي تم أسره بأسره (وما ننساش ، قبل كل شيء، الخمسميت يوم من حرب الاستنزاف المجيده ، والأعمال الخارقة اللي خطط ليها "سلاح المهندسين" من إنشاء الكباري على القناه ، إلى فتح الثغرات في الساترالترابي ، إلى إزالة الألغام حول خط بارليف) ، وكل المعجزات اللي حققها واللي قادر يحققها الجيش المصري حاجة.. واللي إنت بتسألني عليه حاجه تانيه. إحنا كنا بنتكلم عن "الجهات العليا" .. والقوى العظمى التي تجتهد في أن تسيّر الأحداث في المنطقة حسبما تمليه مصالحها .
هناك من كان يرى أن حرب عام 67 ، المدبّرة والمقصود منها التخلص من عبدالناصر واتجاهاته التي لاتتفق مع أطماع الغرب في إمتصاص خيرات المنطقة ، تمخضت عن مشكلات لم يتمكن المجتمع الدولي من حلها، وأن شكلا من أشكال السلام هوالحل ، على أن لا يكون ذلك بالنسبة لمصر من موقف ضعف . ولذلك يجب أن يكون هناك حرب صغيرة محسوبة ، مهمتها استعادة الكرامة الوطنية بالنسبة لمصر، وكسر حدة إحساس إسرائيل بقدرتها على فرض إرادتها ، واستئثارها، بما يشبه الهيمنة ، على تسييرالأمور في المنطقة .
ألم يصرح "هنري كيسنجر"، وزيرالخارجية الأميريكية ، بعد ذلك ، بهذا المعنى ، في مؤتمر صحفي - عقد في الثاني عشر من أكتوبر74- مضيفا بأن هدف الدبلوماسية الأميريكية هو :
" تفادي أي مهانة للعرب ، ومنع أي هزيمة لإسرائيل !"
والأهم من ذلك هو السؤال الذي طرحه "كيسنجر" نفسه :
هل تسمح أميريكا للسلاح السوفييتي أن يهزم السلاح الأميريكي في أيدي حليفتها إسرائيل ؟"
والأكثرأهمية من هذا وذاك هو تصريح الرئيس الأميريكي "ريتشارد نيكسون" عندما التقى عددا من وزراء الخارجية العرب يوم 7 أكتوبر، أي بعد يوم واحد من بدء الحرب المجيدة وظهور المؤشرات القوية التي تؤكد نهاية خرافة التفوق العسكري الإسرائيلي، فقد قال بالحرف الواحد:
"إن الولايات المتحدة الأميريكية سوف تساعد إسرائيل علنا وبدون أي محاولة للتستر لأنها ملتزمة بضمان أمن إسرائيل وحماية وجودها ."
ران الصمت في ذلك اليوم لفترة طالت أو قصرت ..
ثم انفض المجلس ما بين مقتنع .. ومندهش .. ومستنكر.. ورافض لما دار في الجلسة من إفتراضات وتكهنات .
و أعقب ذلك حكايات "الجسرالجوي" ، الذي فتحت أميريكا أمامه مخازن سلاح الجيش الأميريكي لتتدفق على إسرائيل ، والذي أسقط آخر الأقنعة عن وجه أميريكا القبيح .. مما كان يشير إلى فزع أميريكا
و دخولها الحرب ، بطريقة تكاد أن تكون مباشرة ، إلى جانب حليفتها إسرائيل .
وثغرة "شارون" .. ذلك الهجوم الإسرائيلي المضاد في الدفرسوار* .. و"فض الإشتباك".. و"فصل القوات" ** .. وما آل إلى إعلان موافقة مصر بالذات على قرار وقف القتال .
ودخلت مقولة "أوراق اللعبه في إيد أمريكا" التاريخ .
______________________________
(*) جاء ، بعد ذلك ، في مذكرات الفريق الشاذلي عن حرب أكتوبر ، أن طائرة تجسس أميريكية قامت في يومي 13 و 14 أكتوبر بتصوير الموقع غرب القناة من علو 30ألف كيلومتر( بينما أقصى مدى لصواريخنا هو 20 ألف كيلو متر) لرصد خلو منطقة غرب القناة من أي قوات مدرعة ، وبناء على ذلك نجح العدو في العبور بقواته إلى غرب القناة ليلة 16 أكتوبر واستمر في توسيع الثغرة يوما بعد يوم .
(**) بعد الجولات المكوكية العديدة التي قام بها "هنري كيسنجر" في عواصم المنطقة ، تم توقيع إتفاقية فصل القوات في 18 أكتوبر عند الكيلو 101 في سيناء مما يشي بمقدار المسافة التي تفصل بين قوات العدو .. والقاهرة .
* * *
كنت قد قضيت الساعات هائماعلى وجهي حائرا مذهولا، كأنما كنت أبحث عن اليقين في وجوه الناس ، أجوب الشوارع وأذرعها وأنا أشبه بطفل تاه في "مولد" غاب عنه صاحبه ، بينما ينهش كياني حزن له آلاف الأنياب المدببة ، أتفحص تلك الوجوه المذهولة الرافضة مثلي ،
الغير مصدقة لما يجري ، قبل أن أتمكن من أن أتمالك أعصابي وأدخل مبنى التليفزيون .
قال لي "جلال الغزالي" وهو يستقبلني بإيماءة مسرحية وينتقي كلماته التي تنضح سخرية ومرارة وأسى ، قال بالحرف الواحد:
- أرفع لك قبعتي يا صديقي .. إذ يبدو أنه قد تم فعلا تنفيذ "السيناريو" كما وضعته "الجهات العليا".
كان ذلك يوم قبول مصرلقرار وقف إطلاق النار.. يوم أن اغتيل الحلم .
في تلك اللحظة لم أستطع أن أتمالك نفسي .
خرجت أجوب الشوارع بسيارتي بينما تحتلني مشاعر لم أجربها ولم أعرف مثلها من قبل ولا من بعد ، ولا سبيل لمحاولة الخلاص منها ، ولا حتى بالدموع التي كانت تكاد أن تحجب عني الرؤية .
ولأنني كنت في داخلي أرفض تلك التوقعات ، فقد كادت الصدمة تفقدني توازني . فلا يُذهِل المرء .. ويرعبه .. مثل وقوع المخاوف التي كان يتوقعها . وليس أشق على الإنسان أكثر من أن يرتعد خشية من حدسه.
* * *
في تلك الأمسية الكئيبة التي لا تنسى ، في الثاني والعشرين من أكتوبر 73 ، حيث كنتما في بيت الصديق "حلمي التوني" مع مجموعة من الأصدقاء ، تستمعون إلى توابع أنباء وقف القتال ، بعد أن استمعتم إلى "البيان الأول" الذي مهد للخبر المفعم بالفجيعة في إذاعة صوت العرب ، أغنية المطرب "محمد فوزي"** المليئة بالشجن "بلدي أحببتك يا بلدي"، وحيث بلغ الحزن ، الذي كنت تراه على وجوه
الحاضرين وفي عيني الفنان "بهجت عثمان"، الضاحكتين دوما ، حد بكاء الثكالى ، فأجأتك "هـ" بنجاح مساعيها ، من حيث لا تدري أنت ولا تحتسب ، بامكانية الحصول لك على عرض للعمل في إحدى دول الخليج أرسله شقيق لها يعمل هناك (! )
يصبح المرء ، لفرط ما أصابه قبل ذلك من إحباطات ، محصنا ضد توابع ذلك اللون من المشاعر .
كيف استطاعت أن تنسى لهفتك على "قرارالتفرغ" للعمل في "منظمةالتحرير" في لبنان ، ذلك الأمل الذي طال ما حدثتَها عنه ، والذي طال ما سعيتَ إليه و انتظرته ؟!
كأنما كانت ، منذ البداية ، تراهن على نسيانك له أيضا .
وعُدتَ تلمس في ثنايا حديثها سخرية من حلمك بـ "العودة إلى القدس عن طريق بيروت".
ولم يستطع "بهجت عثمان" ، بالرغم من جلال الموقف ، إلا أن يعلق ساخرا من "هـ" وهو يمسح دموعه :
- .. يروح الخليج مين يا عم واحنا شايفينه شرقان على بيروت .. ما صدّق ييجي له أمر التفرّغ .. وعامل زي اللي حا "يناضل" على روحه ؟!
______________________________
(**) رحِمهُ الله في العشرين من أكتوبر1966
* * *
مرة أخرى يتبادر إلى ذهنك أسئلة لم تجد لها إجابة قبل ذلك في هذا الصدد .
هل صحيح ما يقال بأن الشخص الذي تحبه هو في الحقيقة من اختراعك ونسج خيالك ؟
وأنه كثيرا ما يأتي اليوم الذي تلاحظ فيه أن صورته الجميلة التي أتقنت رسمها هي صورة ثنائية الأبعاد .. لا عمق فيها.. وأن البعد الثالث كان من صنع خيالك أنت .. لتصبح كما كنت تشتهيها أن تكون ؟
هل صحيح ما يقال بأنه من الخطأ ، كل الخطأ ، أن تسرف في الخيال فتجعل من محبوبتك كل مناك ومنتهاك .. وكل جنتك وفردوسك ؟
* * *
وكان أكثر ما أسفتَ عليه هو أنك خذلتَ شقيقتك الكبرى"حُسن" ، التي كانت تتبنى العمل على تحقيق ما كانت تصبو إليه أمك ، التي رحلت مكفّنة بشوق الأمهات إلى ذلك اليوم الذي تكتمل فيه فرحتها .. بأن تراك سعيدا في بيتك .. مع أسرتك الصغيرة ..
* * *
الإنتظــــــــــــــــــــــــار ..
"عُمر" الوديع المسالم ، الذي أضناه التفكير في قضيته السياسية ، يشعر بالحرج تجاه زملاءه في العوامة. فهو المسئول عن ذلك التحول والفوضى التي ألمت بالعوامة منذ أن جاء بصديقه "محمود" ليشاركهم السكنى فيها .
"بكر" الهاديء المتعقل يصمم على ترك "محمود" للعوامة .
"مصطفى" المثالي يرى أن الوقت ، وقت الإمتحانات ، غير مناسب لهذا الإجراء .
تتفاقم المشاكل اليومية ، مضافا إليها مشكلة "روز" ومرض ابنتها وتخلي "محمود" عن مسئولياته تجاهها ، ومحاولات "عُمر" اليائسة في إصلاح ما أفسده صديقه .
وتأتي اللحظة الحاسمة التي لا مفر عندها من إنفجار العنف الكامن في أعماق "عُمر" .
ومن خلال الصمت الذي أطبق على الموقف المتفاقم المتأزم ، وفي ظلام صالة العرض الصغيرة ، ينطلق من إحدى مندوبات الرقابة تعليقا على شكل همسة غاضبه إلى زميلها الجالس بجوارها :
- إسمه إيه ده .. عاوز ضرب !
ولم يكد زميلها يبدي موافقته حتى اندفعت قبضة "عُمر" باتجاه "إسمه إيه ده" .. الذي هو"محمود" !
كانت إحدى إعتراضات الرقابة على الفيلم ، هي تلك المشادة العنيفة التي جرت بين "عُمر" و "محمود" الذي كان نصيبه علقة ساخنة تمنت حدوثها إحدى مندوبات الرقابة وأيدها زميلها في ذلك قبل وقوعها .
لم يكن الإعتراض على الموقف أو نتائجه ، فلقد اعترفت "الرقابة" بالضرورة الدرامية لذلك التصاعد . الدليل على ذلك هو ما تشي به بقية أحداث الفيلم . فلقد انضم "عُمر" للمقاومة الفلسطينية. انطلقت من أعماقه طاقة كامنة كان لا بد من تحريكها .. الرفض .. العنف .. المقاومه .
كان الإعتراض على جنسية "عُمر" !
قالوا : كيف يضرب فلسطينيٌ مصرياً ؟!
ولطالما قال كثيرون : كيف تكون ضحالة تفكير "الرقابه" ، أي رقابة ، وفي أي زمان ومكان ، سببا في قتل الإبداع أو لجم المبدعين !
ناهيك عن الإعتراض على فكرة "تعدد مصادرالنور" وتفسيرها بالدعوة الصريحة إلى تعدد الأحزاب (المرفوضة في ذلك الوقت) . أو الإعتراض على الدعوة الواردة على لسان الطالب الفلسطيني "عُمر" لفكرة "الدولة الديمقراطية العلمانية" التي يعيش فيها أهل الأديان الثلاثة متساوون في الحقوق والواجبات و بدون أي تفرقة . وهو ما نادى به "ياسرعرفات" ، بعد ذلك ، في خطابه الشهير في الأمم المتحدة بعد ذلك .. 13 نوفمبرعام 74 .
أما أكثرالإعتراضات عنادا ، وأغربها ، فهو اعتراض السيد ( م. د.) ، رئيس هيئة السينما في ذلك الوقت ، على الخلفية الصوتية لأحد مشاهد الفيلم الجارية قبيل الهزيمة ، حيث كنا نسمع صوت "أم كلثوم" المنبعث من الراديو في مقطع من إحدى أغانيها كنت أرى أنه يناسب ذلك الموقف في تلك الظروف .
غني عن التنويه بأن السيد ( م. د.) هو إبن شقيقة السيدة أم كلثوم .
( وجدير بالذكر أيضا أن المذكور أعلاه هو من هواة "المصادرة"، فقد اعتلى منصة مهرجان "كارلوفي فاري" بعد ذلك ليتسلم "الجائزة" بالنيابة عني ، لغيابي ، وأصرعلى ممارسة هوايته . )
* * *
بالرغم من كل تلك الظروف .. تمكنت ، مع الصديق الكاتب المسرحي "ميخائيل رومان" ، الذي كان يعاني من مرض عضال ، من الإنغماس واللجوء إلى أحضان العمل بالقيام بإعداد آخر مؤلفاته ، "ضميرامراة" . وكدت أن أتقاعس عن تنفيذ تلك التمثيلية التلفزيونية ، لولا أن وافته المنية ، فرأيت أن أسارع بتنفيذها وفاء له فقط .
وكانت هذه هي آخر تمثيلية سهرة لي في تليفزيون مصرالعربي . عام 1974 .
* * *
أزمة أشرطة !
بعد بناء الديكورات .. وإجراء ما يلزم من البروفات .. والإطمئنان على سلامة سيرأمور ثمثيلية السهرة الجديدة، يتوجه أحد مساعدي المخرج ، كما هو متبع ، ما بين فرحة الفنانين والفنيين المشتركين في العمل لاقتراب ساعة ميلاد عملهم الفني ، إلى مكتبة الأشرطة للحصول على شريط جديد لإتمام آخر المراسم .. "التسجيل" .
جاءني الفتى " محمد الشال " **، أحد المساعدين العاملين معي في تمثيلية السهرة بنبأ غريب ، وهو خلوالمكتبة من الأشرطة الجديدة ، مما استوجب الإتصال بمراقب عام قسم التمثيليات ، الذي تمخض ذهنه عن حل عبقري لتلك المشكلة المفاجئة في تلك الساعة الحرجة . قال :
- خليه يشوف أي شريط قديم .. يمسحه ويسجل عليه !
سأله المساعد ببراءة :
- منين نجيب له شريط قديم ؟
قال :
- أي تمثيليه قديمه من تمثيليات الأستاذ غالب !
أبَيتُ إلا أن أعتبرها دعابة .
لكن مساعدي أكد لي ، بين دهشة حشد الفنانين والفنيين المنتتظرين
واستنكارهم ، أن سيادة المراقب العام يعني ما يقول ، مما جعل الجميع
يتضامنون معلنين التوقف عن العمل في انتظار حل معقول . لكن سرعان ما استجاب المراقب العام وأمر لنا بشريط كان يبدوعليه القدم .
خضعت للأمر الواقع . ولكنني ، قبل بدء التسجيل ، خشية مني أن أكون قد وقعت في شرك التمويه الذي بدا على غلاف الشريط المرسل ، طلبت من الفني المختص أن أستعرض جزءا من محتوياته. كنت أتوقع ، على أسوأ الفروض ، أن يكون الشريط كما اقترح المراقب قبل ذلك .. يحتوي على أحد أعمالي السابقة .
______________________________
(**) مساعد المخرج الذي غدا مخرجا معروفا في تليفزيون ج.م.ع.
كان فنيّو "ستوديو2" الخاص بتسجيل التمثيليات ، يتندرون بطبيعتك الهادئة والجو الهاديء الذي يسود المكان أثناء العمل، بعكس الحال مع كثير من الزملاء المخرجين ، ويصفون الأيام التي يقضونها في العمل مع مخرجين غيرهم مثل "إبراهيم الصحن" و"محمد فاضل"، وأنت منهم ، بأنها "أيام راحة واستجمام" !
- .. أول مره نشوفه في الحاله دي .. عصبي وبيشخط وصوته طالع .. ياعالم .. يا ناس .. ده تاريخ .. فيه حد بيمسح تاريخه بإيده .. .. ؟!
ساد التوتر جو الاستوديو . وتناقل الموجودين الخبر .. وعبروا بدورهم عن جام غضبهم واستنكارهم .
فلقد كان الشريط المرسل يحتوي على تسجيل تلفزيوني لإحدى خطب الزعيم "جمال عبد الناصر"!!!
لكن سرعان ما تمكن المراقب العام من تدارك الأمر بأن أمر بإرسال شريط "جديد لنج" لتسجيل تمثيلية السهرة الأخيرة لك في تليفزيون جمهورية مصر العربية .. "ضمير امرأة" .
* * *
روى لي صديقي الموسيقي "كمال بكير"، بعد ذلك بسنوات ، عن صديقه المخرج "إبراهيم الصحن" ، أن الأخير، عندما عاد إلى موقعه في التلفزيون المصري كمراقب لقسم الدراما بعد انتهاء مدة إعارته إلى تلفزيون بغداد ، قد وضع برنامج "ريبريتوار" Repertoire ، حسب الإصطلاح الفرنسي في مجال الموسيقي وكذلك الأوبرا والمسرح ، لإعادة عرض بعض الأعمال الدرامية المميزة .
ولما كان ، لدى عرض تمثيلية "رحلةعم مسعود" ، من تأليف الكاتب الكبير"محمود دياب" وإخراج العبدالفقير، ما زال في بغداد ، حيث شاهدها ولم تنمح من ذاكرته ، فقد وضعها في البرنامج لإعادة عرضها.
وعندما فوجئ بأنها قد اختفت من مكتبة التلفزيون ، مُسحت ، ما كان منه إلا أن أرسل لاستحضار نسخة منها من التلفزيون العراقي .
وقد تم عرض تمثيلية السهرة في عام 1983.
* * *
الموسيقى .. والسلام الوطني الإسرائيلي !
بيني وبين الموسيقى ود قديم متصل . قد يكون للسنوات الطويلة التي قضيتها في مدينة "فيينا" بالنمسا أثرها في تمتين عراه . أضف إلى ذلك تلك الصداقة التي تمتعت بها مع إثنين من عازفي البيانو، المصري "مصطفى" وزميله الإسباني"ضيف الله"، واثنين آخرين من دارسي قيادة الأوركسترا والتأليف الموسيقي " يوسف السيسي"، و"كمال هلال" . ولقد أقام الأخير في عامه الدراسي الأول في غرفة مجاورة لغرفتي في نفس البيت الذي كنت أسكنه ، مما أكسبني المزيد من الإقتراب من المعارف الخاصة بالموسيقى . فبسبب عدم إلمامه باللغة الألمانية بعد، كنت أجدني مقبلا بلهفة على مساعدته ، وذلك بقراءة بعض فقرات المواد المتعلقة بدراسته أولا ، ثم محاولة ترجمتها له إلى اللغة العربية. ومنه عرفت معنى "الهارموني" و "البوليفوني" و "المونوفوني" و "الكونتربوينت" و "الربع تون" .. و .. إلخ .
ثم يأتي صديقي الفنان "سامي رافع" الذي كانت دراسته وثيقة الصلة بالموسيقى ليتيح لي اطلالات تطورت إلى الإلتحاق معه بدورتين متتاليتين والحصول معه على دبلومين منفصلين أحدهماعن فنون اقتباس "الباليه" والآخر "الأوبرا" .. للتلفزيون .
ذلك كله ، في تصوري ، مما كان له بالغ الأثر في تعميق إحساسي باللغة الموسيقية وتذوقي لها .
ولقد تبدت مظاهر تلك العلاقة للآخرين منذ أن قمت بالإعداد الموسيقي لأول أفلامي .. "حكايه"، حيث كنت أردد دائما أنه إذا كان الفيلم السينمائي جسما فالموسيقى التصويرية هي روحه ، وحيث نجحت في جعل الموسيقى جزءا من النسيج الدرامي للفيلم . فلقد نشأت فكرة اختيار موضوع ذلك الفيلم في حينها متوازية مع إنفعالي مع موسيقى كونشيرتو البيانوالثاني لـ "رحمانينوف" .
ثم يلى ذلك قيامي بنفس المهمة في معظم تمثيلياتي التلفزيونية بشكل لفت الإنتباه . وذلك مما دعى أحد زملائي المخرجين باللجوء إليّ لكي أقوم بهذه المهمة لعمل درامي كبير كان يعد لإخراجه ، خصوصا وأن "السيناريو" قد أعده زميل آخر ** كنت أكن له الكثير من المودة ، عن رواية "حذار من الشفقة" للكاتب النمساوي "شتيفان تسفايج" ، الشيء الذي لم أتردد في قبو له . فلا شك بأن الموسيقى "النمساوية" التي أحببتها سوف تغلف وتبرز الأجواء التاريخية لتلك الرواية الرومانسية الجميلة .
لم يكن "الإعداد الموسيقي" للتمثيليات في ذلك الوقت أكثر من اختيار ما يناسب المواقف الدرامية للتمثيلية من معزوفات تزخر بها الموسيقى الكلاسيكية التي تتوفر تسجيلاتها وأسطواناتها في مكتبة التلفزيون .
في مثل هذه الحالات يستصدر المخرج للمعد تصريحا باستعارة التسجيلات أو الأسطوانات من المكتبة. هذا التصريح يكون موقعا من "مراقب عام التمثيليات" .
ولم أكد أنتهي من تحديد اختياراتي حتى هرع أحد المساعدين بكتاب من زميلي المخرج " فايق إسماعيل" لإستصدار التصريح المطلوب . لكن الزميل لم يلبث أن قابلني متجهما يحاول أن يعتذر لي عن عدم إمكانية إتمام المهمة التي كان يلح في طلبه لقبولي لها .
لعب الفار في عبّي ، وزدت إصرارا على معرفة سبب التراجع عندما لمحت أنه يحاول إخفاء ورقة كان يحملها . وأمام إلحاحي لم يجد مناصا من أن يناولني الورقة التي كانت تحتوي على طلب المخرج بالتصريح له باستعارة التسجيلات المطلوبة .
كانت هناك ، في أعقاب الصفحة ، جملة قصيرة مكتوبة بخط اليد وممهورة بإمضاء مراقب عام التمثيليات :
"سري وعاجل .. المرجو تكليف شخص آخر للإعداد الموسيقي ." !
________________________
(**) هو المخرج المعروف "ممدوح مراد" .
* * *
كنت قبل ذلك قد قمت بالإعداد الموسيقي لتمثيليتي السابقة "رحلة عم مسعود" من تأليف الكاتب المسرحي "محمود دياب " . وقد عرضت في القناة الأولى ونالت قسطا كبيرا من ترحيب النقاد وإطراءهم بشكل خاص لحسن اختيار الموسيقى التصويرية .
( أخص بالذكر المقال النقدي المفصل للكاتب الكبير "رجاء النقاش" في أحد أعداد مجلة المصور)**
كانت إدارة "مراقبة التمثيليات" قد عودتنا على إعادة إذاعة "تمثيليات السهرة" الجديدة من خلال "القناة الثانية" مرة أخرى بعد أسبوع من إذاعتها من "القناة الأولى" . وكان ذلك مما يتيح للمشاهدين ، ممن فاتهم مشاهدة العمل في العرض الأول ( في الساعة التاسعة والربع من مساء الثلاثاء 29فبراير 72) ، أن يتابعوه بعد سماع ما يتردد على لسان البعض أو قراءة ما يكتبه النقاد عن ذلك العمل .
وكان من البديهي أن نهتم ، نحن المخرجون ، بمتابعة نتائج ذلك العرض الثاني . فعادة ما يكون المشاهدون أو النقاد من ذوي الصلة والإهتمام بالأعمال الفنية الجادة .
وفي تلك الأمسية ، حسب البرنامج المعلن في الصحف ، كنا قد تجمعنا في بيت الصديق الكاتب "محمود دياب" لقضاء السهرة مع .. "رحلة عم مسعود" . لكننا فوجئنا بعرض تمثيلية أخرى بدون أي إشارة للأسباب التي دعت إلى ذلك التغيير في البرنامج المعلن .
قال لي "مراقب عام التمثيليات" أن الرقابة قد اعترضت على إعادة عرض "رحلة عم مسعود" بسبب الموسيقى التصويرية التي غلفت العمل ، مما حفزني على المتابعة لمعرفة باقي الحيثيات ، التي كانت تتلخص في أن تلك الموسيقى التصويرية ، هكذا بالنص :
" مأخوذة عن السلام الوطني الإسرائيلي " (!)
وسرعان ما تلقيت من رئيس التلفزيون مذكرة استفسار عن ملابسات "القضية" (!) ______________________________________
(**) صدر بتاريخ 10/3/72 .. بعنوان "نموذج جديد للتمثيلية التلفزيونية .
لجأت حينئذ إلى صديقي الفنان "كمال بكير" ، الذي كان يحترف مهنة المحاماة ويمارس ، بحرفية شديدة ، هواية التأليف الموسيقي للمسرح والسينما والتلفزيون ، والذي أشارعلي بالكتابة لرئيس التلفزيون مبينا سلامة موقفي ، وعدم السكوت عن تلك المهزلة ، بعد أن زودني ببعض المعلومات الهامة। وهذا ما سطرته حرفيا :
السيد / رئيس مجلس الإدارة
تحية طيبة وبعد ،
ردا على المذكرة المحولة من سيادتكم بخصوص موسيقى تمثيلية "رحلة عم مسعود" :
1. الموسيقى المستخدمة في التمثيلية المذكورة كانت مختارة من عمل سيمفوني قديم للمؤلف التشيكي "فريدريك سميتانا" وتحمل إسم "مولداو" .. أو "فالتافا".
2. إن الأعمال الموسيقية الكلاسيكية هي تراث إنساني . وإن التلفزيون العربي يسلم بهذا ، بدليل أن كافة الأعمال الدرامية وغير الدرامية تعتمد في موسيقاها التصويرية على مختارات من هذا التراث .
3. ليس من المنطق في شيء أن نحرم أنفسنا من هذا التراث لمجرد تصادف وجود شبه بين السلام الإسرائيلي وبين هذه الموسيقى ، مع العلم أن هذا التشابه مشكوك في صحته .
4. أكد لي السيد المراقب العام ، تأكيدا قاطعا ، بأن مؤلف موسيقى "مولداو" التي استخدمت في التمثيلية المذكورة قد "لطش" موسيقاه من السلام الوطني الإسرائيلي (!) هذا مع ملاحظة أن "فريدريك سميتانا" قد توفاه الله في "براغ" في عام 1884 !
5. عزفت أوركسترا القاهرة السيمفوني أكثر من مرة (12 مرة على وجه التحديد) وتحت إشراف وزارة الثقافة نفس العمل "مولداو" أو"فالتافا" لمؤلفه "ف. سميتانا".. وكانت آخر هذه الحفلات العامة في 5/2/1972 بقاعة "سيد درويش" بالقاهرة .
وهذا وحده ينفي صحة "الفتوى" الواردة في مذكرة السيد المراقب العام .
6. إنني أطالب بالتحقيق في هذا الأمر، والإحتكام إلى لجنة من الموسيقيين المطلعين والمعتمدين لدى هيئتكم الموقرة أو لدى وزارة الثقافة حتى لا تمنع إذاعة التمثيلية المذكورة ، وحتى لا يهدر مجهود الفنيين والفنانين الذي عملوا في هذه التمثيلية ، وحتى لا تهدر الأموال التي صرفت لإنجاز هذا العمل ، وحتى لا تكال التهم جزافا إلى القائم بالإعداد الموسيقي أو المخرج أو لجنة المشاهدة التي أجازت إذاعة التمثيلية المذكورة في عرضها الأول . وكل ذلك استنادا إلى معلومات منقوصة .
7. إنني أطالب بإحالتي إلى النيابة الإدارية للتحقيق معي بصفتي المعد والمخرج المسئول المباشر عن تمثيلية "رحلة عم مسعود"، أو برفض مذكرة المراقب بالطريقة التي ترونها ، وإذاعة التمثيلية المذكورة فورا كرد على المذكرة ، حيث أن أنباءها قد تسربت وانتشرت . وفي هذا إساءة إلى سمعتي كفنان أعتز بإخلاصي لقضايا وطني العربي ، وقضية وطني فلسطين بصفة خاصة. وتفضلوا بقبول فائق إحترامي ،،،.
المخرج
غالب شعث
تحريرا في 26مارس1972
* * *
في اليوم التالي استدعاني رئيس مجلس الإدارة ، واستقبلني هاشّا باشّا وهو يشد على يدي ويبدي إعجابه الشديد بتمثيلية "رحلة عم مسعود" ، وطلب مني الجلوس وهو يثني على مجهودي ويهز رأسه استنكارا لما حدث ومن ثم يدير قرص التليفون ثم يقول بدون مقدمات وبلهجة مستنكرة صارمة وهو ممسك بيده الأخرى برسالتي :
- إيه الكلام الفارغ ده يا أستاذ "ن ..." ؟ !
تمثيلية "رحلة عم مسعود" أنا شفتها وهي من أحسن الأعمال اللي اتعملت عندنا ، ولازم تنذاع تاني وتالت ، وبلاش الأمور دي !
وضع رئيس التلفزيون سماعة التليفون مكانها ونظر لي سائلا بعينيه :
- مبسوط كده ؟
ثم نهض ليودعني ضاحكا ويشد على يدي وهو يناولني الرسالة مضيفا :
- ..وأي مشكلة بتصادفك ..بابي مفتوح لك ..بدون "المرافعات" المكتوبه دي !
ولم أكد أهبط آخر درجات السلم المؤدي إلى "مراقبة التمثيليات" حتى قابلني أحد المساعدين وهو يبلغني لاهثا رسالة شفوية تفيد بأن الأستاذ "ن ..." يريد مقابلتي لأمر هام !
قال وهو يبتسم لي متوددا والإضطراب باد عليه :
- خلاص يا غالب .. أنا حلّيت لك المشكلة مع سيادة الرئيس "حمّاد بيه" مباشرة .. والتمثيلية حتتذاع تاني .. إبسط ياعم !
* * *
بعد أن قرأت الملاحظة "السرية والعاجلة " والممهورة بتوقيع السيد المراقب العام لم أستطع أن أتمالك نفسي . وبالرغم من محاولات زميلي المخــــرج "فايق إسماعيل" ورجاءه وتوسلاته بأن لا "أكبّر" الحكاية .. توجهت لفوري إلى السيد رئيس التلفزيون الذي استقبلني بمجرد أن أعلنت عن وجودي عند السكرتيرة .
ناولته الورقة .. قرأها .. أدار قرص التليفون . وانهالت على المتحدث على الطرف الآخر ألوان من السخريات ، مازلت أذكر منها بعض الكلمات .. مثل "إثارة الشبهات" و "الكلام الفاضي" و "السخافات" !
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق