الحرب الخاطفة (!)
بعد بداية تدريبي في التليفزيون النمساوي بفترة ، بدأت إرهاصات "حرب الأيام السته"، وبدأت معها الحرب الإعلامية التي شنتها أجهزة الإعلام الأوروبية ، والتي تخضع بمعظمها لنفوذ "اللوبي الصهيوني". ولم يكن تلفزيون النمسا ، بالرغم من حياد الدولة الرسمي ، ببعيد عن طائلة ذلك النفوذ المؤثر .
كما وأنه لم يكن من الممكن أن ألتزم الصمت إزاء الأكاذيب التي كانت تتردد في ردهات مبنى التليفزيون قبيل ، وأثناء ، وإثر "حرب الأيام الستة" .
وانتهى الأمر، في أحد الأيام ، إلى حوار أدى إلى مشادة كلامية بيني وبين رئيس تحرير كبرى الجرائد اليومية ، الـ "كورير" Kurrier ، الذي كان يقوم بالتعليق يوميا على الأنباء .. ويدعو إلى إنقاذ "واحة الديمقراطية في بادية التخلف العربي" من عدوان جيرانها "الأشرار الحاسدين الحاقدين" !
استطعت أن أتأكد من أن رئيس التحرير هذا ليس يهوديا ، بل هناك من اكد لي بأنه معروف بإلحاده . وحرت في أمر هذا الرجل الذي يتبوأ ذلك المركز في تلك البلد التي تعلن حيادها رسميا ، بحيث يملي عليه الواجب أن يسعى وراء معرفة ونشر الحقيقة . حاولت تذكيره بالحقائق التاريخية التي تتعلق بالقضية وقرارات الأمم المتحدة التي تدين الكيان الصهيوني صراحة . لكنه كان يهز رأسه وينظر لي بعينين زجاجيتين وابتسامة صفراء ساخرة من جهلي ، ويهز رأسه متوعدا كأنما كان يعرف ما ستبدي لنا الأيام . لم أجد تفسيرا لموقفه وانحيازه الأعمى سوى .. العمالة !
واجهته برأيي هذا فيه ، محاولا أن أبدو في نفس بروده .
بعد ذلك ببضعة أيام ، أي بعد مرور ثلاثة أشهر فقط من الستة شهورالممنوحة لي للتدريب ، وصلني من إدارة التلفزيون خطابا يفيد ، بطريقة غير مباشرة ، بإنهاء الخدمه في 15/6/67 !
ذلك بدلا من الموعد المتفق عليه.. وهو 15/9/67 !
كان الخطاب عبارة عن "شهادة خبرة" من التلفزيون النمساوي تفيد بأنني قضيت فيه فترة تدريبية لمدة الشهور الثلاثة .
وبالرغم من ذلك فقد أتاح لي أساتذتي ( العاملين منهم في نفس الجهاز) فرصة إتمام المدة الباقية بصفة غير رسمية .. ولكن بدون أجر.
* * *
ربما كان هذا هوالمكان المناسب للتنويه عن أسوأ أيام يمكن أن يعيشها مطلق إنسان مغترب . لكن تلك "المناسبة" بذاتها ما زالت مثل الكابوس الذي تفيق منه ولا تعرف كيف ومن أين تبدأ في استذكار تفاصيله .
قال لي صديقي "يوهان" ، الذي دامت صداقته منذ أن وطئت قدماي أرض "فيينا" حتى وقتنا هذا :
- .. ليس هناك أكثر بشاعة من "الهولوكوست" المزعوم إلا ما يقترف بحق شعبكم !
لقد استطاع اليهود أن يتبوأوا منزلة رفيعة قوية في أوروبا .. عن طريق استخدامهم الذكي للأكاذيب . فأين أجهزتكم الإعلامية .. وأنتم تمتلكون الحق والحقيقة ؟!
ثم ردد ، بكلمات أخرى ، نفس المعنى الذي قاله لي المهندس "شولتس" في مدينة "فوبرتال" الألمانية :
- .. وهل يجوز أن يقتصر الوصول إلى هذه الحقيقة على أفراد تصادف أن جمعت بينكم وبينهم صداقة مثل صداقتنا .
يجب أن تكفوا عن الإكتفاء بأنكم أصحاب حق .. فهذا لا يكفي !
أنتم بحاجة إلى الإعلان عن ذلك بشكل يتفهمه ويقبله الغرب الذي استطاعت "إسرائيل" أن تضمن انحيازه إليها .
نعم ياصديقي .. يجب أن تتسع لغتنا لتلك المفردات التي نصوغ بها أقوالنا حتى تصبح روايتنا مقبولة ومفهومة من قبل الآخرين .
* * *
يأبى علينا كبرياؤنا إلا أن نصدق "صوت العرب" .. ونصرّ على أن نكذِّب كل إذاعات الدنيا .. وكل الأصوات . ألم يعدنا المذيع "أحمد سعيد" بأن قواتنا المصرية سوف تتناول الشاي ، قبل غروب شمس يوم 5 يونيه ، في "تل أبيب" ؟
ثم نذهب ، الطلبة العرب ، إلى السفارة المصرية مستوضحين طالبين نقلنا إلى أرض المعركة .. فيسخرمنا السفير ، ".. التهامي" ، قائلا أن "البلد مش ناقصه رجاله .. روحوا زاكروا أحسن!"
مساء الخميس ، الثامن من يونيه ، يخترق أذني صوت “ماريا” ، من خلال الهاتف ، وهي تسألني عن حقيقة سقوط القدس !
يوم الجمعة 9 يونيه ، كنا قد تنادينا للتجمع في مقر رابطة الطلبة العرب .
تحلقنا حول المذياع .. في انتظار الخبر اليقين .
إلى أن سمعنا صوت الزعيم جمال عبد الناصر وهو يطلع الجماهير المصرية ، والأمة العربية ، على قراره بالتنحي عن الحكم ، واعترافه بمسئوليته الكاملة عن الهزيمة . وهو نفس الصوت الذي كان يملأ آذاننا ونفوسنا عـــزة وكرامــــة وفخـــرا وآمـــالا وكبريـــاء.
يومها .. بكينا كلنا بلا استثناء بكاء الثكالى .. !
يكاد كل منا أن يصرخ من أعماقه في وجه الآخر :
" يستحيل !"
* * *
يوم السبت 10يونيه 67 ، يصر صديقنا "يوهان" على أن يصحبنا لقضاء أمسية آخر الأسبوع خارج المدينة ، بعيدا عن مجال تأثير الصحافة وأجهزة الإعلام ، وهروبا من النظرات والتعليقات الساخرة التي كانت تلاحقنا .
هناك في ضاحية "سيمرينج" Simmering على سفح جبل "كالينبرج" Kahlenberg المطل على "فيينا" والدانوب الأزرق وهو يخترقها.. سوف نحتفل بعودة "عبد الناصر" عن قرارالتنحي .
"توني كاراز"، منذ أن ذاع صيت موسيقاه عقب نجاح فيلم "الرجل الثالث" ، رائعة "جراهام جرين" ، منذ عام 49 ، مازال يعزف لحنه الشهير، الذي اتخذه المخرج الممثل"أورسون ويلز" لحنا مميزا للفيلم ، على آلة الـ"تْسيتار" ، التي تشبه إلى حد بعيد آلة "القانون". ورواد مقهاه ( الذي صوِّرت فيه أجمل مشاهد الفيلم المذكور ) من السائحين يتقارعون الكؤوس في ضوء الشموع .
“ماريا” تحيط كتفي بذراعها وتشاركني بيدها الأخرى رشفة من كأسها .
ننتزع البسمات ونتبادلها .. "سامي" و"مصطفى" وزميله الإسباني "ضيف الله" و "يوهان " و "أنا" .. وصديقاتنا .
ويعود "ضيف الله" لممارسة دعاباته وسخرياته اللاذعة لاستفزازنا بتكرار تذكيرنا بأن عدم موافقته على عودة اليهود إلى فلسطين لم يكن حبا بالفلسطينيين أو كراهية لليهود .. ولكن حتى لا يتخذ العرب من ذلك حجة لعودتهم إلى أسبانيا !
فنضحك .
وبالتدريج تنطلق ألسنتنا ، التي أدمنت السكوت منذ أيام مرت متثاقلة كأنها دهور، بأحاديث كان لا بد أن تتخللها كلمات عربية يقتضيها قفشة من قفشات "مصطفى" ، أو تعليق من تعليقات "سامي" أو "ضيف الله" الموغلة في السخرية . ولا بأس من أن تحاول إحدى الصديقات أن تستعرض الكلمات العربية التي تعلمتها ، محاولة منها في إضفاء مسحة من المرح على مجلسنا الحزين ، البالغ الكآبة والإحساس بالضياع .
فجأة يقف أحد الجالسين حول مائدة مجاورة ، ويرفع كأسه ، وصوته ، معلنا وطالبا تناول نخب الإنتصار في "الحرب الخاطفة" ، Blitzkrieg ، الإصطلاح الألماني الشهير .
كانت الكلمات العربية قد نمّت عن جنسيتنا . وكانت كؤوس النبيذ قد حفزت ذلك الواقف وزينت له إستفزازنا . أخذ يتحدث عن "الحرب الخاطفة" التي لقنت "أعداء السامية" درسا لن ينسوه ، وسحقت "حلفاء الشيطان" الذين سولت لهم أنفسهم أن يهددوا أمن "واحة الحرية والديمقراطية" بدافع من حقدهم وحسدهم .. و .. و ..
إلى آخر الموشح المعروف ..
ثم يختتم حديثه بأن يوجه إلينا الكلمات الأخيرة .. بلغة عربية سليمة :
- .. حبيبي إذا ما كنتش فاهم كلامي .. أنا بقول لك باللغة العربية الفصيحة :
"من لا يعرف السباحة يترك الملاحة" .. مفهوم ؟
* * *
هناك تعبيرات لا تجدها إلا في اللغة الدارجة :
"مش عارف أودّي وِِشّي فين !"
كان هذا لسان حال كل طالب عربي في "فيينا"، أوغيرها.
بتنا نتوارى عن الأنظار خجلا وإحساسا بالكآبة.. و بالخزي والمهانة.
بماذا نجيب عن تساؤلات الأصدقاء المتعاطفين معنا ؟
وكيف نتحمل نظرات الشامتين فينا .. أو نتجرع كؤوس المهانة والخزي التي كانت تقدم إلينا على شكل تعليقات جارحة ؟
(هنا تلاحقون الفتيات .. وهناك تفرّون منهن .. خوفا !)
(تركتم سلاحكم الجوي يدمَّرعلى الأرض .. فهل كنتم تريدون من السوفييت أن يتولوا أيضا محاربة إسرائيل نيابة عنكم ؟)
( إخلعوا أحذيتكم واختفوا من أمامنا .. حفاة كما كنتم .. يا رعاة الإبل!)**
( تنتصرون على الهواء .. وتنهزمون على الأرض ! )
( لا تريدون السلم .. ولا تجيدون الحرب !)
( إنكم تثيرون شفقتنا !)
_______________________________________________________
(**) إشارة إلى ذلك المشهد الممعن في السادية ، الذي تكرر بثّه في تلفزيونات أوروبا، لأكوام الأحذية العسكرية وقد تركها الجنود الأسرى المصريين تنفيذا لأوامر الإسرائيليين .. ليسيروا حفاة على رمال الصحراء الحارقة .. إمعانا في الإذلال . و"رعاة الإبل" Kameltreiber هي شتيمة ألمانية مشهورة يخصّون بها العرب بالذات .
* * *
إلا أن أكثر ما أوجعني ، هو سؤال “ماريا” الذي رأيته في عينيها أكثر من مرة قبل أن تستجمع شجاعتها وتسأله والألم يعتصرها :
- ..هل يعني ذلك أنك لن تستطيع العودة إلى القدس .. ؟
سقوط القدس كان يؤرق "ماريا"।
كانت تخشى أن يعني ذلك أنني لن أستطيع العودة إلى مدينتي .. هذا مع أنها كانت دائما تحبذ لو أن أقرر
أنا البقاء في "فيينا" ..
* * *
ظلوا ، منذ ألفي عام ، يرددون :
"تنساني يميني إن نسيتك يا أورشليم" !
ماذا عساي أن أقول غير ذلك .. يا" قدس" ؟
* * *
"ضيف الله" .. و "العبيط" ..
هو الصديق والزميل الإسباني لصديقي "ع. مصطفى"، المبعوث لاستكمال دراساته المتخصصة بآلة "البيانو" في الأكاديمية ** ، الذي كان لا يكف عن التعبيرعن فخره واعتزازه بآثار الدماء العربية التي تجري في عروقه . كان هذا مما جعلنا ، مصطفى وأنا ، نطلق عليه إسم "ضيف الله" تيمنا بإبن جلدته الموسيقار الذائع الصيت De Falla Manuel ، الإسم الذي ينطقه الإ سبان "دي فايا" ، والذي يصر "العارفون" على إعادة تحريفه إلى أصوله العربية (!)
(ومن لا يتذكر أن "شيكسبير" قد تحول ، في يوم من الأيام ، بقدرة قادر، على أيدي هؤلاء العارفين ، إلى "شيخ زبير". وأن إسم "ماركوس" هو تحريف عن "امرؤ القيس" ؟!)
________________________________________________________
(**) ومن زملائه في ذلك الوقت الصديقين "يوسف السيسي" و "كمال هلال" اللذان كانا يدرسان قيادة الأوركسترا والتأليف الموسيقي .
كان "ضيف الله" ، إلى جانب روحه المرحة وقدرته على السخرية اللاذعة ، متعدد المواهب. كان عازفا بارعا متميزا متمكنا من آلته الموسيقية ، البيانو ، ولا يقل عن ذلك براعة كلاعب كرة قدم تجلت قدراته في فريق الأكاديمية . وهو، فوق هذا وذاك ، يقطر موهبة ككاتب قصصي وروائي له باعه الطويل في هذا الميدان .
قرأت، فيما قرأت له ، مترجما إلى اللغة الألمانية ، مخطوط روايتة القصيرة .. "العبيط" Idiot .. التي كتبها متأثرا بـرواية "ديستويفسكي" بنفس العنوان .. والتي ظلت محور أحاديثنا لفترات طويلة. كنا نتسلى دائما بتحويل أجزاء منها تزخر بالمواقف"الكوميدية الجادة" ، كما كان يحلو له أن يصفها ، إلى مشاهد سينمائية يقوم بتقمص شخصياتها فإذا بي أكتشف قدراته وبراعته كممثل كوميدي ساخر من نوع "نجيب الريحاني" .
لا أعرف سببا معينا لحضوره الملح على هذه الصفحة وفي هذه اللحظة .
هل هو شعوره العارم بالأسى ، بعد 5 يونيه ، وإحساسه العميق بالهزيمة .. مثلنا ؟
أم هو شعورنا، الذي استطاع بسخرياته أن يوصلنا إليه ، بأننا قد خدعناه وخذلناه ؟!
(يبدو أننا كنّا ، في الأيام العربية "المجيدة" التي سبقت "5يونيه" والتي جرى فيها حشد الجيوش واستعراض القوة، أيام كانت إنتصاراتنا تتوالى على الهواء ، قد أخذتنا نشوة وهم الانتصار ، مما زيّن لنا أن نتخلى بعض الشيء عن تحفظنا و "دبلوماسيتنا" في أحاديثنا عن الصراع العربي الإسرائيلي .)
هل هي سخريته اللاذعة ، وتقمصه المتقن لشخصية السفيرالمصري "ح. ت" منذ أن أصر، وهو يفوقنا حماسا وغِيرة ، على مرافقتنا آن ذهبنا نحن الطلبة العرب لمقابلة السفير ومطالبته بترحيلنا إلى أرض المعركة ؟
(دأب "ضيف الله"، بعد ذلك ، على إنهاء كل مناقشة لا يتفق مع محتواها بترديد ما قاله السفير :
- " روخو .. زاكرو .. أخسن !" )
أم هو فهمه لقضيتنا ، وقضايا العصر، وقدرته على تحليل وتفسير هزائم العرب .. منذ قرطبة الأندلس وغرناطتها ؟
* * *
قال لي صديقي الأسباني ذات مرة .. بمرارة :
- .. البرنامج الرسمي للحزب النازي كان هو "طرد كل اليهود من ألمانيا". وهم الآن يتبادلون الأدوار مع مضطهديهم الألمان ، ويعملون على طرد العرب من بلدهم الأصلي فلسطين . فهل يعني ذلك سوى عودة وانبعاث عنصرية النازية في "إسرائيل" الصهيونية .. صنيعة الغرب ؟!
ثم أضاف "ضيف الله" مستدركا :
- قد يكون طردالعرب من أسبانيا، وأقول قد يكون ، مقبولا بادعاء أنهم "محتلون ".. فماذا عن إضطهاد اليهود وطردهم من إنجلتراعلى يد الملك الإنجليزي "إدوارد الأول" عام 1290 ، و الإبادة التي واجهوها على يد "محاكم التفتيش" عام 1492 في أسبانيا ؟!
ألا يؤكد هذا مقولة أن الثقافة الغربية هي التي انتجت أكثر الظواهر بشاعة في التاريخ .. "اللاسامية" و "النازية" و "الهولوكوست" و "الصهيونية" و "العنصرية" و "الأبارتهيد" ؟! **
________________________________________________________
(**) "الموسوعة العالمية اليهودية" تتحدث عن العرب وتصفهم بأنهم أحسن من عامل اليهود بين الأمم وأنقذوهم من محاكم التفتيش في أسبانيا حيث كان يجري حرق اليهود الهراطقة (الذين اعتنقوا المسيحية في العلن وكانوا يمارسون اليهودية في السر) وتقول أن اليهود هم الذي أطلقوا على عمر بن الخطاب لقب "الفاروق" ، الذي يفرق بين الحق والباطل ، وهو الذي سمح لليهود بالمجيء إلى فلسطين بعد أن طردهم الرومان منها ودمروا الهيكل . وكذلك صلاح الدين الأيوبي سمح لهم بالمجيء إلى فلسطين بعد أن ذبحهم الصليبيون في أوروبا .. وكانوا دائما من علية القوم في العواصم العربية حتى عام 1948
ثم جاءني في أحد الأيام التي أعقبت الهزيمة بقصاصة من مجلة "دير شبيجل" Der Spiegel الألمانية جاء فيها ما أسماه "ضيف الله" تفسيرا لسر نكباتنا ، على لسان "دافيد بن جوريون" في خطابه الذي ألقاه على مسامع قادة الهاجاناه ، في العيد الأول لإعلان دولتهم :
" .. إن ما تحقق لنا من نصرعظيم كان أكثر مما تصورناه وتوقعناه ...
ولكن إذا كنتم تتصورون وتعتقدون أن هذا النصر هو بفضل عبقريتكم وذكائكم وقوتكم فإنكم على خطأ كبير.. إنني أحذركم من خداع أنفسكم .. فلقد تم لنا ذلك لأن أعداءنا يعيشون في حالة مزرية من التفسخ .. والضعف .. والفساد .." .
* * *
و لعل سبب حضوره هو مشاركته لي بإهتماماته السينمائية التي تجلّت عندما أصرعلى قراءة سيناريو فيلم "حكاية" عندما لجأت إليه ليسجل لي مقطعا موسيقيا أحتاج إليه على آلة البيانو.
وبعد ذلك مرافقته لي في معظم مراحل عمل الفيلم ، ومن ثم إعجابه البالغ به ، مما جعله يقوم بدعوة أحد أقرباءه الأثرياء ، وهو منتج سينمائي إسباني معروف ، تصادف وجوده في فيينا في ذلك الوقت ، لحضور أحد عروض الفيلم المذكور وإقناعه بإنتاج روايته "العبيط" فيلما سينمائيا أقوم أنا بإخراجه ؟
كان ذلك قبيل مغادرتي لفيينا بأيام قلائل ، بحيث لم يكن هناك مجال للإستجابة إلى إلحاحهما .. أو حتى مجرد مناقشتهما .
أم هي رسائله العديدة اللحوحة التي طاردني بها في القاهرة ، ووصفني في آخرها بأنني أنا .. "العبيط" ؟
لكن "ضيف الله" فاجأني ، بعد انقطاع ، برسالة يعتذر فيها عن ما جاء في رسائله السابقة . ولم يلبث أن أخذ يعبر عن تقديره لإحجامي عن بدء حياتي العملية بعمل يبتعد عن قضيتي، التي كانت سببا في دراستي للسينما، ويمطرني بعبارات التشجيع والإعجاب بفكرة ارتجلتها مرة لكي أتخلص من إلحاحه لمعرفة مشاريعي المقبلة .
كانت الفكرة تتلخص في تصويرمعاناة الغربة.. والمنفى .. والتشرد .. والأشواق إلى أحضان الوطن . كتب يقول : من ، غيرك ، يمكنه ذلك ؟
ولم تغادرني الفكرة .. بل أخذت تكبر وتتطور وتتشعب وتتبلور .
* * *
وداعا .. فيينـــــــــــــا !
وكان " لا بد مما ليس منه بدٌّ "।
كانت "العودة" من "فيينا" بالنسبة لي ، نظرا لاستحالة تحقيق حلم عودتي الموءود إلى القدس ، بعد احتلالها في يونيه 67، تعني معاودة "الهجرة" أو "اللجوء" إلى مصر بالذات . فهي ، على كل حال ، المكان الأنسب الذي كان يمكن أن يتيح لي فرصة العمل واكتساب الخبرة في مجال تخصصي الجديد .. السينما .
قلت في البداية أن ثمة أشياء تبدو أقل أهمية من أن يذكرها المرء أو يدونها .. ولكنها أهم بكثير من أن يهملها أو يتناساها . مثال ذلك هو ما أدين به من العرفان لصديق عزيزهوالفنان التشكيلي المصري "سامي رافع" ، المدرس في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة ، الذي أرسلته وزارة الثقافة المصرية آنذاك للتخصص في تصميم مناظر "الباليه" و "الأوبرا" في نفس الأكاديمية التي كنت أدرس فيها . فقد تم تعارفنا واستمرت صداقتنا طوال فترة الدراسة. بل وقامت الملحقية الثقافية المصرية ، بالتنسيق مع رابطة الطلبة العرب ، بالإحتفال بتخرجنا معاً في أحد صالات الفنون في "فيينا" حيث عرضت أعماله بما فيها من لوحات و "ماكيتات" متعلقة بمشروع تخرجه. كما تم عرض فيلم "حكايه" ، مشروع تخرجي السابق الذكر . هذا إضافة إلى "البوستر" الجميل الذي صممه ونفذه "سامي" للفيلم .
كان ذلك في 10 يناير67 ، كما تؤكد بطاقة الدعوة التي ما زالت بين مقتنياتي .
كنا قد قمنا باستعارة نسخة الفيلم من الأكاديمية لهذا الغرض . ولم تخطر ببالي ، حتى ذلك الوقت ، فكرة عمل نسخة خاصة بي من الفيلم ، لولا تأكيد صديقي "سامي" على أهمية ذلك . بل إنه كان يصرعلى أن نسخة من الفيلم في يدي أحسن وأوقع أثرا من كل "الدبلومات" وشهادات التقدير المتميزة التي حصلت عليها (!)
الحقيقة أن إغفالي لتلك الفكرة كان نتيجة لإرتفاع التكاليف ، وضيق ذات اليد . لكن صديقي كان لا يمل من محاولاته لإقناعي بتدبير "المبلغ" بأي طريقة . فما كان مني إلا أن أرسلت إلى أخي "عابد" في السعودية أطلب منه تحويل تكاليف عمل النسخة الخاصة بي .
* * *
كان ذلك قبيل سفري إلى "هولندا" . وأذكر أنني ، لكي أقنع أخي بأهمية طلبي هذا ، قمت بالكتابة إليه عن نيتي بالإشتراك في مهرجان "أمستردام" وغيره من المهرجانات السينمائيه ، وعن يقيني بأنني سوف أحصل على "جوائزعالميه" (!)
لم يتردد أخي، وقتها ، في تحويل المبلغ المطلوب . لكنه لم يتردد أيضا في إبداء رأيه في ما كانت تحمله رسالتي من مظاهر الثقة بالنفس إلى درجة الغرور ، والحديث عن المشاريع المستقبلية إلى درجة "الفشر" !
فلقد جاءت رسالته لي مروسة بعبارة :
أخي العزيز "أبو لَمْعَــــــه" الأصلي !
وذلك إيماء إلى فـشّار برنامج "ساعه لقلبك" الإذاعي الشهير في حينه .
* * *
كانت تربطني بالفنان "سامي رافع" صداقة جديرة بالإعتزاز . فقد كنا نتبادل الإهتمام كل باختصاصات الآخر. كان يقدر لي إهتماماتي التشكيلية وكنت أفعل ذلك إزاء إهتمامه بالسينما والتصوير الفوتوغرافي الذي كان يمارسه بإتقان ودراية . كما كانت لنا إهتمامات مشتركة بالموسيقى .
ماذا عساني أن أكون قد تعلمت من ذلك الفنان ، المسكون بهاجس الإتقان ، غير ذلك الشيء بعينه الذي لا يجوز أن يفتقر إليه أي فنان ؟
ومما هو جدير بالذكر هو إلتحاقنا للتدريب في دورتين عقدهما تلفزيون النمسا بالإشتراك مع منظمة الـ "يونيسكو" خلال عام 67 ، وحصول كل منا على "دبلومين" .
الأول .. "دبلوم" دورة " فن إقتباس الأوبرا للتلفزيون" ..
الثاني .. "دبلوم" دورة " فن إقتباس الباليه للتلفزيون" ..
وعندما حان موعد سفرنا إلى مصر، لم يكن بوسع سيارة كل منا أن تستوعب أمتعته ، التي كانت تتكون في معظمها من صناديق كرتونية مكدسة بالكتب والمجلات الفنية والأسطوانات والتسجيلات الموسيقية ، مما اضطرنا إلى استئجار سيارة "نص نقل" لترافقنا بالأمتعة إلى ميناء "فينيسيا" البحري، حيث قضينا ليلتنا الأخيرة ، “ماريا” وأنا ، و من حيث واصلنا رحلتنا ، "سامي رافع" وزوجته النمساوية "جريتا" وأنا ، في صبيحة اليوم التالي بحرا إلى الإسكندرية لنصلها في يوم 3سبتمبر 1967 .
* * *
" فضـــــــفضـــــــة " ..
وجهها وطن .. ابتسامتها وطن .. قلبها وطن ..
لكنها أوطان لم تكن لك ..
هذا ما كانت تقوله "وثيقتك " ..
تترقرق دوماً في عينيها الصافيتين كلمتها المتسائلة :
- " مالَكْ" ؟
تطاردك بحنان الأمهات .. تطمئن عليك .. تطمئنك ..
يزداد جمالها في نظرك كلما اندمَجَتْ معك في حديث جاد .
يزيدك حديثك معها .. اشتهاء لها .
وتعيش متعة الحديث معها قبل ، وبعد ، اللحظات الحميمة ..
لتعرف كيف يمكن أن تتماهى وتتناغم نزوات الجسد وحاجاته مع أمنيات الروح وأشواقها .. مع نداء العقل واتزان بصيرته .
وتتساءل باستنكار :
كيف يمكن لإنسان أن يمارس الحب مع أنثى لا تغريه شفتاها بالإنصات إليها حينما تتحدث .. ؟!
حيث يكون لصوت عقلها ما لمذاق قبلاتها ، ولون عينيها ، وملمس بشرتها ، وفوح عطرها الرباني من سحر .
* * *
هناك من لا تكتمل الحكاية بدون ذكرهم . كيف يمكن أن تغفر لنفسك إغفالك التنويه بما تدين به من العرفان لإنسانة ما تظنها سوف تقرأ هذه السطور .
تلك هي “ماريا” التي آنست غربتك ، وأذابت مرارة وحدتك في بحرعذوبتها ، ومنحتك حبا يكفيك العمر كله ، والتي لم يفرق بينك وبينها سوى قناعتك باستحالة الإرتباط بها، لأنك كنت على يقين من أن ظروفك لن تمكنك من أن تقدم لها القليل من الكثير الذي تستحقه .
أنّى لها أن تدرك مشقة أن يكون المرء بلا وطن Staatenlos أو بلا مكان يعود إليه .. وهي التي تنعم بحرية خيار السفر .. والعودة !
بدأت علاقتك بها يوم لبَّيت دعوة أحد زملاء العمل في المكتب الهندسي ، "هوبينبيرجر"، الذي كنت تعمل به في "فيينا" قبيل بدء دراستك السينمائية . ترددت في البداية في قبول الدعوة . لكن زملاءك الآخرين أصروا على حضورك إصرارا لم تُجد معه كل أعذارك التي كان من بينها أنك لم تكن في ذلك الوقت على علاقة بمن تصطحبها لذلك "البارتي" الذي يقيمه الزميل إحتفالا بعيد ميلاده . فلقد دأبت على بتر علاقاتك قبل أن تتحول إلى أوهام قد تمكِّنها الغربة وقسوة الوحدة من احتلالك .
حرتَ في ذلك الوقت في نوع الهدية التي كان يتعين عليك أن تحملها لزميلك . وفي اللحظة الأخيرة ، وقبل فوات الأوان ، خطرت لك فكرة مطورة عن فكرة قديمة يرجع الفضل فيها إلى صديقك وزميلك "يوهان" الذي شاركته يوما في تطبيقها ، وهي تصميم وتنفيذ إطار خشبي متوسط الحجم مطعم بزخارف شرقية بسيطة تتكون من نجوم ُثمانيّة من أسلاك فضية دقيقة غائرة في الخشب. ثم خطر لك ، بدلا من تقديم الإطار فارغا ، أن تضع فيه بطاقة بريد ملونة كانت بحوزتك لمدينة القدس القديمة ، تتوسطها ساحة الحرم الشريف والمسجد الأقصى ومسجد الصخرة وما يحيط بالحرم القدسي من كنائس .
اجتذبت تلك الهدية أنظار ضيوف زميلك وظلت تتنقل بين أيديهم إلى أن استقرت بين يديها فجاءتك لتعبر عن إعجابها ، وتتساءل عن النجوم التي اختلطت في ذهنها مع "نجمة داود" السداسية .. الإسرائيلية . وكان من الطبيعي أن يجري الحوار حول دلالة كل من النجمتين من ناحية ، وحول مدينة "القدس" وعلاقتك بها من ناحية أخرى .
أما المناسبة الثانية التي جمعتكما فكانت ذلك الحفل الذي أقامه المهندس "هوبينبيرجر" في أحد مطاعم "فيينا" العتيقة الشهيرة بمناسبة حصوله على وسام الدولة ولقب الشرف "H.C." في مجال عمله. وكان زوج إبنة المهندس ، المحامي ذائع الصيت "د. شفارتس" ، وزوجته طبعا ، من ضمن الحاضرين الذين كانوا بمعظمهم من موظفي المؤسسة .
* * *
مازلت تتذكر ذلك اليوم الذي زارت فيه تلك المرأة المكتب الهندسي ، يوم نهض طاقم المهندسين الذين كنتَ تعمل معهم لتحيتها . نظرتَ إلى زملائك باستفسار فهمسوا لك بشيء لم تفهمه في الحال . مدت يدها لك وهي تقول :
ــ أظنك السيد "شاث" الذي سمعت عنه من "بابي".. و"مامي" بالذات؟
رسمتَ على وجهك تساؤلا .. فأجابت :
ــ .."ماجي " !
وعرفتَ أنها إبنة المهندس "هوبينبيرجر" التي طالما سمعت زملاءك في المرسم يتحدثون عن سحر جمالها .. ويتندرون بمغامراتها .
كان جمالها ينتمي إلى ذلك الجمال الباذخ الذي لا يستهويك ، والذي ينطبق عليه وصف "عمر الخيام" الغريب بأنه فاجر الحسن ، والذي يحث العقلاء على الإحتماء منه بالإبتعاد عنه خوفا من السقوط في أحابيله ، عملا بالحكمة القائلة "إبعد عن الشر وغنّي له" . ولذلك لم يبد على ملامحك ذلك الإنبهار الذي كانت تتوقعه منك .. أسوة ببقية الزملاء .
وتكررت الزيارة مرات متقاربة ثم تباعدت .. ثم انقطعت . وكان أن فسر الزملاء ذلك الانقطاع بأنها لم تعد بحاجة لتلك الزيارات .. فهناك أماكن أخرى للقاء (!)
ولم تتوقف الأقاويل التي كانت تحكي عن مغامرة "ماجي" الجديدة المزعومة . بل إنها خرجت من حدود المكتب الهندسي الذي اجتهد أفراده في فبركتها (!)
على أنك لم تدخر جهدا في محاولة إقناع الزملاء بأن شيئا مما في ظنونهم لم يحدث .. مما أثار تعليقاتهم الساخرة من .. "قلة حيلتك".
* * *
همست لك "فراوْ هوبينبيرجر"، زوجة المهندس ، العجوز الطيبة التي كانت تشعر بتقدير زوجها ومودته لك ، بعد أن قامت بمهمة تعريف الحاضرين الجالسين حول المائدة الطويلة الممتدة ، همست لك بأنها لا تحمل ودا شديدا لزوج ابنتها "الخائب"، كما وصفته ، لأنه يتولى قضايا التعويضات النمساوية لليهود من ضحايا المحرقة॥ الهولوكوست । (** )
__________________________________________________
(*) ُتعتبر النمسا ذاتها من ضحايا النازية ، فلقد سبق وأن تم احتلالها وضمها إلى الرايخ الثالث . ولم يتوقف شعب النمسا عن مقاومة الإحتلال النازي ومن ثم قوات الحلفاء . وقد تم جلاء قوات الحلفاء في 26 أكتوبر 1955 ، وهو اليوم الذي تحتفل فيه النمسا بعيدها الوطني .
أما "د.شفارتس" الذي كان يعرف موقف حماته منه ،
والذي أدرك بفطنته ما يمكن أن تهمس به لك بالرغم من
جلوسه إلى طرف المائدة البعيد ، وهو أيضا ما كانت تشي
به قسمات وجهها ، فقد ظل يحاول اقتناص اللحظة التي تلتقي
فيها نظراتكما .. وذلك ما كنتَ تتجنبه . فما عساه ، هذا الذي يعمل على تزويد جلاديك بالمال الذي يأتي بالسلاح ، أن يحمل لك من "مجاملات" ؟!
لكنك لم تستطع إلا أن تلتقط كلماته التي كان يوجهها لبعض الجالسين من حوله ، وهو يبذل جهده لكي تصل كلماته إلى مسامعك.
كان حديثه يدور حول اليهودية والنازية والمحرقة .. و"النازية
الجديدة" .. وصولا إلى الحديث عن إسرائيل .. " واحة الديمقراطية في صحراء التخلف العربية " :
- ".. من هم العرب ؟ "
" .. أليسوا ، كما يذكرالتاريخ ، هم "البربر" الذين غزوا إسبانيا .. ؟"
".. أليسوا هم الذين أغاروا على إيطاليا وصقلية و جنوب فرنسا .. ؟"
".. ومن هم المسلمون ؟ أليسوا هم الأتراك الذين حولوا بيزنطة إلى القسطنطينية وزحفوا إلى مشارف فيينا .. ؟"
" .. أليسوا هم التتار الذين غرسوا الأشواك المسماة بالجمهوريات الإسلامية في الإتحاد السوفييتي " .. .. وهَلُمَّّ جرّاً !
كل ذلك وأنت تحاول تجاهله بالتشاغل بالحديث مع جيران المائدة .
إلا أنه ، وقبيل انتهاء السهرة ، استطاع أن يقتنص فرصته رغما عنك فابتسم لك ابتسامة ذات معنى وهو يقول بأن حماته قد تحدثت عن إتقانك اللغة الألمانية بشكل يثير إعجابها ، ثم أردف سائلا باستفزاز مستتر وسخرية مبيتة متوارية وراء كلماته :
- .. وما دام الأمر كذلك فلا بد أنك تعرف أيضا ما تعنيه "جملة جوتس المأثورة" ** .
لم يكن "د.شفارتس" ، الذي أراد السخرية منك أمام الجمع ، يقدر أنك (ربما بمحض الصدفة) قد قرأت تلك المسرحية أو سمعت ، على الأقل ، عن تلك الطرافة التي احتوتها تلك المسرحية. فما كان إلا أن انقلبت الآية ، وأصبح ، بجلالة قدره ، هو موضع السخرية عندما أجبتَه بسرعة.. وبلا تردد أو خجل (على غير عادتك ) :
- بكل تأكيد يا "دكتور شفارتس" ..
ثم أردفتَ بأعلى صوتك :
- .. "بإمكانك أن .. .. " !
_______________________________________________________
(**) "جوتس" هو إسم الشخصية المحورية في مسرحية "جوتس فون بيرليشنجن" إحدى مسرحيات الشاعر والمفكر والكاتب الروائي والمسرحي الألماني المعروف .. "جوته" .
وفي أحد المواقف يطلب "جوتس" ، المتمرد ، من الرسول أن يبلغ سيده ، المستبد ، متحديا ساخرا :
- . . . . قل له : " بإمكانك أن تلعق مؤخرتي" !
فكان أن صارت عبارة "جملة جوتس المأثورة"، بين الناطقين باللغة الألمانية ( والصفوة منهم بالذات) مثلا سائرا .. وكناية عن شتيمة مستترة .. تغنيهم عن التلفظ بنص الشتيمة الأصلي.. الخارج (!)
تعالت الضحكات بمختلف ما تحمله من معان ، عندما قمتَ
باستظهارالجملة المذكورة .. بحذافيرها.. ونصهاالأصلي .. كما
نطقها "جوتس" المتمرد .. وبدون اللجوء إلى "الكناية" التي تتضمنها عبارة "جملة جوتس المأثورة" .
ضمت "فراو هوبينبيرجر" ، "حماته" ، قبضتيها رافعة إبهاميها في الهواء معلنة تضامنها معك ، بينما تماسك المهندس وحاول كبت ضحكته المتواطئة وإخفاءها وراء كتف زوجته .
ورأيت أنت أن تنسحب من المكان قبل أن يتطور الموقف إلى "حرب" لست مؤهلا لها مع محام قدير ذائع الصيت .. ويتمتع بالعدوانية و الوقاحة أيضا .
اعتذرت لرئيسك المهندس وزوجته ، بعد تقديم التهاني وكذلك الشكر لدعوته إياك لتلك المناسبة ، وسارعت بالخروج من المكان ، مكتفيا بالنصر الذي حققته في تلك "المعركة" .. "الخاطفة".
ولم تكد تستنشق هواء الشارع في أولى ساعات الصباح وتصل إلى محطة الترام القريبة حتى شعرت بمن كان يتبعك ثم يمسك بذراعك من خلفك .
كانت هي “ماريا” .
وسرعان ما تمكنت كلماتها من أن تبدد أمارات الإكتئاب والقهر التي كانت بادية على وجهك :
- .. لعلك سوف تنسى ما قاله ذلك العميل المأجور ، أما هو فمن أين له أن ينسى ذلك الموقف المزري الذي وضعتَه فيه !
وكم كنت أتمنى أن يطول بقاؤك لكي تستمع إلى سخريات الحاضرين منه بلا استثناء .
ثم أردفت بروح مرحة وهي تلوح بمفاتيح سيارتها:
- أظن أن آخر"مترو" قد فاتك .. وأنه لا يليق بي أن أتركك تنتظرحتى يأتي أول"مترو" .. فهل تقبل دعوتي لتوصيلك ...
* * *
ولم تترك ذراعك لسنوات طوال ، نشأت فيها بعد ذلك بينك وبين “ماريا” كأجمل ما تكون العلاقة بين شاب تضنيه الغربة ويشتاق إلى الحنان ، و فتاة رقيقة مثقفة معطاءة تفتقد إلى شيء كانت تتوق إليه ، هو ، كما أوجزَت لك مرة إثر مرة ، ما كنتما تمارسانه معا بعفوية شديدة .. الصدق .
عرفت عنك كل شيء ، فراحت تغدق في عطاءها العاطفي بسخاء نادر ، ورحت تعيرها الود والإحترام والإهتمام . كما عرفتْ واحترمتْ منذ البداية تحفظك من الإرتباط بأجنبية ربما تجد فيها كل المزايا التي يبحث عنها أي إنسان في شريكة حياته ، ولكنه يخشى من أن يكون سببا في إقتلاعها من بيئتها ، وبالتالي معاناتها لما تعانيه أنت من الإحساس المرير بقسوة الإغتراب . هذا ما كان يفرضه كونك ممن هم "غير معيني الجنسية" ، أو "بلا وطن" كما تقول الترجمة الحرفية للإصطلاح الألماني ، وما يمليه الغموض الذي كان يكتنف مستقبل جيلك كله من الفلسطينيين .
هذا .. إلى جانب إدراكها لما كنت تعانيه إثر تجربتك الفاشلة التي لم تستطع أن تكتم تفاصيلها .
كانت خير رفيق لك في سنوات الغربة الأخيرة . كانت النسمة المنعشة . كانت البسمة المضيئة دوما . كانت الحضن الدافيء الذي حاول أن يداوي جرحا قديما لم يلتئم ، وأحزانا كنت تكابرها وتحاول أن تتعالى عليها .
في يوم ما من أيام الخلود إلى ذكرى الأيام الجميلة من الماضي، أيقنت أن الفضل في نجاحك المتميز في دراستك ، وحصولك على المجانية الكاملة في الأكاديمية ، كان يدين للتوازن الذي كانت تضفيه “ماريا” على حياتك ومشاعرك . هذا.. علما بأنك كنت دائما متوسط النجاح في دراساتك السابقة!
ما طالعك وجهها يوما إلا و كانت تعلوه ابتسامتها المنسية أبدا على قسماته المريحة .
ابتسامة تنتمي إلى سنوات الطفولة وبراءتها .
ابتسامة غدت مألوفة لك كما دقات القلب ورمشات العين .
مرة واحدة ، أو ربما مرتان ، كأنما استيقظ فيها ذلك الجانب من أنوثتها ولم تستطع أن تواري حزنا وشى به بريق دمعة مكتومة لم تلبث أن ابتلعتها الأجفان ، ذلك عندما أفلتت منها ، بعد تردد طال ، كلمات متعثرة توحي برغبتها في "ولد" يبقى لها بعد غيابك المحتوم .
لكنها سرعان ما كانت تثوب إلى رشد يمليه خوفك من مسئولية لست كفؤا لها .. خوفك من ما كان يرقى في نظرك إلى مرتبة ارتكاب الجناية التي لا تغتفرعلى ذلك الـ "ولد". (!)
مرتان متباعدتان .. خلال السنوات الأربع .. غابت فيهما عنك لبضعة أيام .. ولغيرما سبب ظاهر . في البداية لم تستطع أن تتكهن بتفسير لذلك الغياب . وبعد محاولات متواربة .. باحت لك صديقتها "إيفا" بالسبب .
في المرتين ، استجابة منها لصوت العقل ، كانت تُخضع نفسها لعملية تتخلص فيها من الجنين قبل فوات الأوان .
هل هناك أقسى على المرء من أن يدرك خطأه .. حيث لا ينفع الإعتراف أو الندم ؟
* * *
لم أعرف معنى الحزن الحقيقي ، ولم أر دموعا صادقة مثل تلك التي رأيتها عن بعد عشرات عديدة من الأمتار وهي تلمع منهمرة من عينيها في اللحظات الأخيرة التي كنت أقف فيها على ظهر السفينة "إسبيريا" ، بينما كانت "ماريا" تقف ملوّحة بيديها مودعة على رصيف ميناء "فينيسيا" .
ذلك اليوم كان صبيحة ليلة عيد ميلادها السادس والعشرين .
لقد أبت إلا أن ترافقني لكي نحتفل به معا .. في ساعاتنا الأخيرة .
* * *
عندما زرت "فيينا" لأول مرة ، بعد مرور تلك السنوات الطويلةعلى مغادرتي لها ، وذلك إثر حضوري لمهرجان سينمائي في ألمانيا الإتحادية ، عام 94، وبينما كان صديقي "يوهان" ، الذي بات ذلك المهندس المعماري المتألق في بلده ، يقودني لأتفرج على الفيلا المنيفة التي صممها وبناها لنفسه .. وبينما كنا نقف أمام حوض السباحة الشتوي .. بجوار حمام "الساونا" .. سألني فجأة :
- ألا تريد أن ترى “ماريا” ..؟ إنها ما زالت تذكرك بالرغم من مرور حوالي 25 عام على سفرك من !
أدركتنا زوجته "إيفا" في تلك اللحظة .. كررت نفس السؤال .. وحاولت إضافة ملاحظة ما .. فأسكتها "يوهان" بإيماءة ظلت مطبوعة في ذاكرتي لا تكف عن تحريضي على استشفاف معناها .
لم يسمع أحدهما مني إجابة .
كنت أخشى أن أرى في عيني “ماريا” الرثاء لحالي .
هل أقول لها أنني خسرت الرهان بعد أن أنفقت أهم سنوات عمري جريا وراء سراب إسمه العودة إلى الوطن والإستقرار فيه ؟ ذلك بعد أن أعطتني "النمسا" كل مقومات الإستقرار فيها .. من حق في إكتساب الجنسية إلى إمكانيات العمل .. إضافة إلى رفيقة عمر أسكن إليها .
هل أقول لها أنني مازلت أتنقل بين الفنادق و "الشقق المفروشة" ، في مختلف البلاد ، في إنتظار العودة إلى بلدي ؟
هل أقول لها أن أحلامي قد انهزمت وانحسرت وتقلصت وانحصرت في انتظار الحصول على "رقم الكومبيوتر" الذي سوف يمكنني من العيش في ظل "سلطة" يعلم الله مدى سلطتها ، ويعلم الله متى سوف تعيدني إلى داري في "القدس" ؟
داري التي باتت “ماريا” تعرفها ركنا ركنا !
"يوهان" كان قد عقّب على شعار "الأرض مقابل السلام" ، الطازج في حينها ، والذي "فرحنا" به في بداية الحديث عن الحل السلمي ، بسخرية مريرة :
- أي أرض .. وأي سلام ؟؟
أخشى ، يا صديقي ، أنهم يقصدون "أراض عربية" ما زالت في حوزتكم ولم تجر مصادرتها أو احتلالها أو استيطانها بعد .. مقابل سلامتهم وأمنهم !
* * *
"إيفا".. في ذلك اليوم .. لم تستطع إلا أن تكررالتلميح من بعيد إلى إبنة “ماريا” التي عبرت لتوها إلى العام الرابع والعشرين من عمرها .
هل هناك ما هو أقسى على المرء من أن يصبح في وضع يستحي فيه ويوارى نفسه .. من نفسه ؟
* * *
لا أدري .. هل كان من حسن حظ “ماريا”.. أم من فرط سوء حظي ، أن أخي "عابد" قد تدخل في حسم الأمر، عندما كانت تواتيني لحظات الضعف تجاهها !
لم يترك أخي فرصة تمر دون أن يردد لي مقولته عن خطورة الزواج المختلط على الأبناء ، مستشهدا لذلك بكثير من الحالات التي أعرفها ، والتي لا أعرفها ، والتي لم يكتب لها النجاح والاستمرار، لأنها كانت تفتقر إلى الأرضية الصلبة .. والاستقرار .
* * *
الغرب .. والشرق
كثيرا ما يخطرلي، في مثل هذه المناسبة ، ما قاله "نقولا زياده" ، الكاتب الأديب والمؤرخ الفلسطيني ، حينما تحدث عن "صدمتين" عندما ذهب في مقتبل عمره للدراسة في لندن ..
الصدمة الأولى صدمة عادية ، سياسية ، تتعلق بمواجهة مظاهرحرية الرأي .. والممارسة اليومية للديمقراطية. وأظننا ، نحن معشرالدارسين في جامعات أوروبا، قدعرفنا وخبرنا ما شابه ذلك من الصدمات .
أذكر، أيضا ، أنني صدمت عندما شاهدت مظاهر الحرية والديمقراطية في بلاد الغرب هذه .
لم يكن لناعهد بهذه المظاهر، فلقد حرصت حكومة الإنتداب البريطاني في فلسطين على ذلك أشد الحرص .
لم نعرف معنى "الديمقراطية" .. لم نعرف كلمة "إنتخاب" .. كنا نسمع عنها سمعا فقط .
في المدرسة يُفرض علينا العريف الذي يمثل سلطة المدرسة كما كانت تفرض علينا حتى الألعاب التي نمارسها . واختياراتنا -إن وجدت- محددة مشروطة .
وفجأة .. وجدنا أنفسنا في أوروبا نعيش ونرى ونسمع ونتأمل .. ونتمنى لبلادنا العربية أجمل ما رأينا وشاهدنا وسمعنا . وباتت أحلامنا هي دولة لنا ، تتفتح في ظلها طاقاتنا على الإبداع والبناء .
أماالصدمة الثانية فكانت اجتماعية. ذلك عندما سأل "نقولا زياده" والدة صديقته لتسمح له بمرافقة ابنتها فقالت له ببساطة :
- لماذا تسألني .. إسألها هي ؟!
ولقد كانت "ماريا"، إضافة إلى رجاحةعقلها ، تتمتع أيضا برعاية أبوين واسعي الصدر والأفق .
قالت لي أمها، ليلة أن سهرنا للاحتفال بعيد ميلادها الرابع والعشرين ، وعندما هممت بمغادرة بيتهم في أولى ساعات الصباح ، وهمّت "ماريا" لتوصيلي إلى مسكني بسيارتها حيث قد فات موعد آخر "مترو" :
- لم كل هذا العذاب ؟!
وتبادلت نظرة مع الأب الذي ابتسم وهو يتمنى لنا ليلة سعيدة ويغادرنا إلى غرفته . ثم أكملت .. وهي تبتسم في مكر غير ممجوج :
- خذ الأمر ببساطة يا بني ، ولا داعي للحرج أو للتردد ، فما الفرق بين أن تقضي "ماريا" عندك طول النهار، وبين أن تقضي أنت عندها بقية هذه الليلة ؟!
هل يختلف فراش الليل عن فراش النهار ؟!
ألجمتني (والحق يقال) تلك المسألة .
ولم أعرف (وأكاد لا أعرف حتى الآن) في أي جانب أنا من هذ المنطق!
أما صديقي خفيف الروح "ع. مصطفى" فقد استغرق في الضحك عندما سمع حكايتي وحكى لي قصة مشابهة .. قال :
- .. و"هايدي" قالت لها أمها يوم مارحت آخدها لحفلة الأكاديميه الساهرة السنوية :
"خذي وقتك" .. وما تشغليش بالك بموعد آخر "ترام" .. وروّحي معاه.. والصباح رباح !
* * *
قالوا :
"الشرق هو الشرق .. والغرب هو الغرب .. فكيف يلتقيان ؟!"
وأقول مكررا :
للمنفى مساوئ لا تحصى .. وفضيلة واحدة .. إنه يذكرنا دائما بحاجتنا إلى وطن .. ويؤكد صلتنا بأصولنا .
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق