الأحد، 16 مايو 2010

"الظلال في الجانب الآخر"


كما سبق وأن ذكرت في البداية أن فكرة تسجيل تجربتي السينمائية ، بشكل عام ، كانت قد خطرت لي ، أوعلى الأصح قد تبلورت ، بينما أنا أكتب المقالة التي طلبتها مني مجلة "أدب ونقد" القاهريه ، كمساهمة في الملف الخاص الذي تعده المجلة عن الكاتب الروائي والمسرحي "محمود دياب" ، بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله .

* * *

هكذا بدأت مقالتي أو مساهمتي في ذلك الملف :
أن نقوم بإحياء ذكرى مبدعينا بعد رحيلهم .. ففي ذلك تكريم لهم يقتضيه الوفاء . ولكن أن يقتصر هذا التكريم على شعائر تقام كل عشر سنوات .. أو حتى كل سنة .. فذلك هو أضعف الإيمان .. بل هو في رأيي أشد الكفر .. والجحود !
هل صدرت طبعة واحدة من "الأعمال الكامله" لمحمود دياب ؟

هل أخذت أعماله المسرحيه حقها على مسارح الدوله ؟

هل تحولت رواياته أو قصصه الى أعمال درامية في التلفزيون ؟ ولنترك الحديث عن السينما ، لأنه لم يعد هناك وجود للقطاع السينمائي العام الذي كان يمكن أن يتحمل مثل هذا "العبء" ! ففي أيام "عز" القطاع العام .. احتاجت "جماعة السينما الجديده" لما يقارب الثلاث سنوات من النضال لكي تحول إحدى روايات محمود دياب الى فيلم سينمائي . . بعد أن تنازل هو وحشد من الفنانين والفنيين عن أجورهم لكي يتحقق ذلك .
ما زال هناك بصيص من الأمل .. وهو أن تتاح الفرصة لأحد "المناضلين" في التلفزيون - بالذات- لأن يجمع ما يستطيع جمعه من الأرشيف .. ويحاول أن يضيف سهرة قيمة الى سهرات التلفزيون .. وأعني "تحقيقا" يوفي محمود دياب بعضا من حقه .. يحيي ذكراه .. ويعرف الأجيال به .
وإذا كان ذلك البصيص قد اختفى من أفق السينما بعد تدفق "مشاريع الخصخصة" ! فما يدريك ؟
فقد تبلغ الجرأة بصندوق النقد الدولي .. مثلما أوصى بالأمس ببيع "ميناء العقبة" للقطاع الخاص .. أن يوصي ببيع التلفزيون ومن قبله أو من بعده .. ببيع قناة السويس أيضا !

لكن صديقي الناقد الأدبي "فاروق عبد القادر" ، الذي كان قد قام بترشيحي لهذه المساهمة ، كان يرى ويحبذ حذف تلك المقدمة ..
وظهرت المقالة في العدد 89 من مجلة "أدب ونقد" الصادرة في أكتوبر 1993 كما يلي :















"حكايات مع محمود دياب"
تعــدد مصـادر النــور

لدى عودتي ، بعد حوالي أحد عشرعاما قضيتها بعيدا عن الوطن العربي ، كان لا بد من أن أحاول - بالقراءة - أن أعوض ، بقدر الإمكان ، وأن أستزيد من أسباب التواصل مع مجتمعي القديم الجديد . لا سيما وأن عملي سوف يعتمد إعتمادا وثيقا على هذا التواصل .
كان ، طيب الذكر، سورالأزبكية ، هوأحد المصادر بل أهمها ، إذا أخذنا "الدخل" المتواضع المحدود للموظف بعين الإعتبار. فقد وُظِّفتُ ، في نهاية عام 67 ، مخرجا في قسم التمثيليات بالتلفزيون .
كانت رواية "الظلال في الجانب الآخر" إحدى الغنائم التي خرجت بها من جولاتي الروتينية الكثيرة حول "السور" . وكنت ، في ذلك الوقت ، أبحث عن "نص" يصلح لأول تمثيلية سهرة تلفزيونية سأقوم بإخراجها .
أخذتني الرواية ، ابتداء من عنوانها الغني بالإيحاءات.. الى أجواء الفنانين التشكيليين التي لم أكن بعيدا عنها .
الشباب الباحث عن مصابيحه في عتمة الضياع ، بين افتقاد للإحساس بالاستقرار والأمان .. وأمل في مستقبل أفضل يلوح بريقه ثم يخبو .. حسب اتجاه رياح الصراعات الدولية التي تؤثر في أوضاع المنطقة بكاملها .
مهّد "محمود دياب" لذلك ببراعة مذهلة ، في تلك "العوّامة" التي تسكنها مجموعة من طلبة كلية الفنون الجميله ، ينتمون الى أماكن متباعدة من (الوطن العربي) مصر .
"العوّامة" المهتزة دوما من تحتهم . المرتبطة بأرض الواقع بحبال قديمة واهية .. وجسر خشبي لا يكف عن الأنين تحت وطأة أقدام العابرين . وذلك العالم المتضارب من الألوان والتكوينات والنظريات والمذاهب .. والأصوات والمشاعر .. والعمل والفشل .. والمحاولة والأمل .. والرفض .. والإصرار .. والحب .. والغيرة .. إلخ
كل ذلك في رواية ظهرت في عام 1963 !
هل كان محمود دياب يستشعر الهزّات ؟
هل كان يحذر من كارثة أسموها بعد ذلك بالنكسه ؟!
لقد لمست سخريته المريرة من بعض الشعارات النبيلة في تلك المرحله .. منددا بذلك بأسلوب التعامل مع تلك الشعارات .
كان لا بد من أن أتعرف بهذا الكاتب الذي أعترف بأنني - حتى ذلك الوقت - لم أكن قد قرأت له . ولم يكن ذلك لقلة شأنه بين الكتاب العرب . ولكن لجهلي ، نظرا لغربتي الطويلة التي اقتضتها ظروفي ودراستي .
استقبلني "محمود دياب"، في بيته ، إثر مكالمة تلفونية قصيرة جرت بيننا ، وكأنه على يقين بما كنت أريد استيضاحه .
أو كأنه يستأنف حوارا يفترض أنه دار بيننا قبل ذلك .
- هل استخلصت أي رموز من الروايه ؟
- إطلاقا ! وأنا لست مغرما بالترميز بمفهومه السائد !
- إذن .. إتفقنا .

وعرفت ، ربما لأول مرة ، معنى التعبيرالأدبي " ضحك فلان بملء فيه " . كان محمود يضحك بملء فيه ، وتحمل ضحكاته جزءا هاما مكملا لمعنى الجملة التي يقولها . سألته :
- هل يمكنني حذف إحدى الشخصيات .. أو إضافة شخصيات جديده ؟
- (مبتسما) طبعا !
- وهل أستطيع أن أغير زمن الرواية ، بحيث يصبح ما بين عامي 66 و 67 ؟
- (ضاحكا بملء فيه ) يا ريت !

التحفظ الوحيد الذي أصر عليه محمود دياب هو "العوامه" . وكان يعني أن إمكانات التلفزيون لن تستطيع أن تعطي المكان حقه . وحكى لي عن تجربة "نص" كتبه للتلفزيون .. ورُفض بسبب صعوبة بناء "ديكورات" الأماكن التي تجري فيها الأحداث . كان اسم التمثيلية "رحلة عم مسعود" .

كنت قد نسيت أن أقدم له نفسي كمخرج سينمائي في الأصل ، وأن عملي في التلفزيون هو "مرحله". وأنني شرعت في وضع تصوري لـِ "الظلال في الجانب الآخر" كفيلم سينمائي . فعاد يضحك بملء فيه . وأخذ يحدثنيعن صديقه المخرج التلفزيوني الذي "رحل" بالنص .. ولم يعد . ثم عاد وحدثني، بوجد من فقدعزيزا، عن "رحلة عم مسعود".
ولم يفته أن يسألني ، في نهاية لقائنا :
ما دمت لا تنوي عمل "الظلال ..." في التلفزيون ، فهل يا ترى وجدت "المنتج السينمائي"؟
قلت ببراءة شديده :
- لا . المهم أن يصبح لدينا "سيناريو" جاهز !
سألني :
- من أنتم ؟
* * *

في عام 68 ، أعلنت "جماعة السينما الجديدة" ** عن نفسها .
رافضة كل ما من شأنه أن يقيد حرية الإبداع السينمائي من تقاليد إنتاجية .. ورقابة .. إلخ
وأفردت لنا ، في ذلك الحين ، مجلة "الكواكب" مساحة صفحتين أسموها "مجلة الغاضبين" . والحقيقة أنه لم يكن لنا دور في تلك التسمية . ولو أتيحت لنا فرصة الاختيار لأسميناها "مجلة المتفائلين" مثلاً ! فقد كانت غالبيتنا من خريجي معاهد السينما الباحثين عن ذواتهم ، المجمعين على أن السينما التي نريدها لا يمكن تحقيقها إلا من خلال أساليب جديدة في الإنتاج والتوزيع ، تتمتع بحرية في اختيار الموضوع - المعاصر - واختيار الممثلين المناسبين ، بدون الوقوع في شباك "الشبّاك" ! هذا بالإضافة الى اللغة السينمائية السليمه .
ومرة أخرى .. حرية التعبير !
المهم أننا بدأنا بالتعبير عن أنفسنا ، وتعريف الآخرين بنا .. وبحركات التجديد السينمائية المنتعشة في ذلك الوقت في كل مكان . مثل الموجة الجديدة في فرنسا .. والسينما الشابه في ألمانيا .. وسينما الشاطيء الشرقي في أمريكا ومسميات أخرى .. في أماكن أخرى .
سألني محمود دياب عن "الأسلوب الجديد" في الإنتاج . فحكيت له - مثلا - قصة أسرة "شاموني" الألمانيه ، الذين كوّنوا ، في بداية الستينات ، فريقا سينمائيا تعاون مع بعض الأصدقاء ، وبدأوا إنتاجهم بفيلم كان "بداية" موجة "السينما الألمانية الشابه" !
وقد تميز الفيلم بعدد محدود من الشخصيات.. وقصة تعالج مشكلة من مشاكل الشباب في ذلك الوقت .
كانت بيوتهم ومكاتبهم هي أماكن التصوير الداخليه ، بالإضافة الى الشوارع والحدائق العامه . وكانوا جميعهم يعملون في مختلف الأعمال ، ليدخروا بعض المال الكافي لشراء بعض المواد الخام ، والمصاريف اللازمة لتصوير جزء من الفيلم ، الذي يقوم بأدواره ممثلون ناشئون .. أو هواة . ثم يتوقفون لمعاودة العمل ، وجمع بعض المال مرة أخرى .. وهكذا !
قال لي محمود دياب بحماسة شديدة :
- ما تعملوا زيهم ! وأنا كمان مش عاوز حاجه منكم .. أنا مساهم معكم بالروايه بتاعتي !
ثم ذكر لي اسم منتج "عربي" يدعي أنه يحب التعاون مع المخرجين الشبان !
- إبقوا شوفوه .. مش غلط !
___________________________________________________
(**)أحمد راشد/ احمد متولي/ ألفريد ميخائيل/ حسين عبد الجواد / خيريه البشلاوي / داود عبد السيد/ رحمه منتصر/ رأفت الميهي/ سامي السلاموني/ سامي المعداوي/ سعيد الشيمي/ سمير فرج/ سمير فريد / صبحي شفيق/ عادل منير/ عبد الحميد سعيد/ علي أبو شادي/ علي عبد الخالق/ غالب شعث/ فؤاد التهامي / فؤاد فيظ الله/ فايزغالي/ فتحي فرج/ مجيد طوبيا / محمد راضي /محمود عبد السميع /مختار يونس/ نفيسه نصر/ نبيهه لطفيه/ هاشم النحاس/ يوسف شريف رزق الله/ وغيرهم .. .. (مع الإعتذار للسهو والخطأ )

والحقيقة أن مسألة التمويل لم تكن تؤرقني في البدايه .. فقد كنت أرى - فعلا- أن وجود "السيناريو" الجاهز للتصويرهوالمهم . وبعد ذلك تبدأ عملية البحث عن التمويل . فها هو المنتج "العربي" الذي سمع عنه محمود دياب ، دليل عل عدم وجود مشكلة .
هذا .. بالإضافة الى ذلك الثري "المستنير" ، الذي كان يؤمن بموهبة شقيقته الصغرى ، والذي استعد أن يساهم في انتاج فيلم نظيف - حسب تعبيره - تقوم شقيقته ببطولته ، رغبة منه في إيجاد "فرصة" لظهورها وتحقيق أحلامها .
ووافقت "جماعة السينما الجديدة" على تلك الفكرة . خصوصا وأن الفتاة كانت في عمر "روز"، بطلة الرواية المراهقة البريئة ، التي لم يكن من السهل إيجاد ممثلة في سنها تقوم بدورها . هذا بالإضافة إلى أنها كانت تمتلك بعض الموهبة ، وأنني تعهدت بالقيام بإعدادها كممثلة .

* * *

لم ألتق بمحمود دياب إلا بعد عام أو يزيد . كنت خلاله قد انتهيت من كتابة السيناريو، وأخرجت للتلفزيون أول أعمالي وهو "التركه" لنجيب محفوظ . وأذكر ذلك لأن الكاتب الكبير قال لنا ، كاتب السيناريو "مجيد طوبيا" وأنا ، نفس الإجابة التي سمعتها من محمود دياب :
- تلك هي روايتي .. كتبتها لكي تقرأ . أما أنت فلك "لغتك" الخاصة .. ولك أن "ترويها" كما تشاء !

وإذا كان عنوان القصيدة هو تجربتي"كمخرج سينمائي" مع محمود دياب "الكاتب" ، فإن "بيت القصيد" ، بمفهومي ، هو أن أتحدث ، على ضوء هذه التجربة ، عن "الرواية الأدبية" .. وإعادة "روايتها" بلغة السينما .
وهذا هو التعبير الذي أفضل أن أطلقه على عملي هذا . ولا يعنيني الاصطلاحات الأخرى مثل التحويل .. أوالإقتباس .. أوالأفلمه .. أوالإعداد .. إلخ . وهذا الموضوع يحتاج إلى "أعداد خاصة" من المجلة .. وجولات من البحث والدراسة والحوار .. وإعادة النظر . وذلك للوصول الى حل لمسألة المصطلح النقدي العربي .. وأخص بالذكر ما يتعلق بالسينما . لأن الناقد السينمائي العربي قد آثر، في كثير من الأحيان ، أن يختصرالطريق .. وأن يوفرعلى نفسه مشقة البحث عن قواعده وأصوله الخاصه . بل إنه كثيرا ما كان يسلك الطريق الأكثر سهولة .. فيستعير المصطلح النقدي الأدبي .
وعندما يريد أحدهم أن يتميزعن غيره من النقاد .. نجده "يتلذذ" باستخدام اصطلاحات نقدية أجنبية ، ناسيا أو متناسيا أن لكل مقام مقالاٌ .

ليس صحيحا أن "الصورة" هي مفردة "اللغة السينمائية" مثلما أن "الكلمة" هي مفردة "اللغة الأدبيه" . فهاهوالأديب لا يكف عن محاولة خلق "الصور" ليراها القاريء بمخيلته. وفي الناحية الأخرى .. هل استطاع السينمائي - حتى في أيام السينما الصامتة - أن يستغني عن "الكلمه" .. بالرغم من تعدد أدواته التعبيريه ؟!
في البدء كانت الكلمة تتحمل عبء خلق الصورة لدى المتلقي . كانت هناك "صورة الكلمة" ، التي لم تستطع "صورة الآلة" أن تضاهيها جمالا وإيحاء .
إن جدلية العلاقة بين "الصورة" و "الكلمة" تعود بنا الى فجر التاريخ ، عندما كان الإنسان الأول يقوم بأولى محاولاته لتسجيل انطباعاته . وتاريخ الحضارة يؤكد لنا أن أولى أدوات التعبير "تسجيلا" أو "كتابة" .. كانت هي الصوره . بل وتشهد الرسوم القديمة التي وجدت على جدران مغارات "ألتاميرا" في اسبانيا .. وغيرها ، أن الإنسان الأول حاول ، أيضا ، أن يحرك الصورة . أو ، بتعبير أدق ، أن يسجل الحركة .. أو يعبر عنها في رسوماته .
ولكن يبدو أن الإنسان الأول قد " أرجأ " استكمال محاولاته في تحريك الصورة الى أن يصل الى صناعة "الآله" أولاً .
واكتفى أحفاده بمحاولات "تحريك" الكلمة . وأعني بذلك خلق علاقات بين الكلمات ، من شأنها أن تثري مدلولها .. وتؤدي الى "صور" ومعان جديدة . وتصل باللغة المحكية أو المكتوبة الى الإكتشافات التي توارثناها ، وما اصطلح على تسميتها بالبلاغة ، والبديع ، والبيان .. إلخ . لتصبح اللغة ( المحكية أو المكتوبة ) في كامل لياقتها .. ولتكون أكثر تعبيرا عن الأحاسيس البشرية ، التي ازدادت تعقيدا بازدياد وتشعب التجربة الإنسانية ذاتها .
وبمجرد أن توصل الإنسان ، في العصرالحديث ، الى الآلة وطورها وطوعها لاحتياجاته المختلفة ، عاد لمواصلة محاولاته في تحريك الصوره .. فكانت "السينماتوجرافيا" .
وظلت "السينماتوجرافيا" اختراعا ، أو ، كما وصفها الناقد المؤرخ جورج سادول ، " صناعة يدوية ، لفتت أنظار رجال الأعمال " !
إلى أن وضع المبدعون من روّاد السينما القواعد والنظريات في جماليات "اللغة السينمائيه" . ومارسوا كل ضروب البلاغة والمحسنات البديعية في تعبيراتهم السينمائيه، من تشبيه ، واستعارة ، وكناية ، وجناس ، ومطابقة ..إلخ
إلى أن اكتملت تجربة دمج "المؤثرالبصري" مع "المؤثرالسمعي" - كلمة ، وموسيقى ، وما إلى ذلك من المؤثرات الصوتية الأخرى - .
عندها أصبحت السينما ، بحق ، "الفن السابع" !

وعلى الرغم من أن رجال الأعمال ، الذين لفت أنظارهم ذلك الاختراع ، قد استعانوا بالأدب - قصة أو رواية - كمصدر للحدث ، الذي أصبحت "السينماتوجرافيا" قادرة على روايته .. مستثمرين رواج تلك الأعمال الأدبية لا أكثر .. إلا أن المبدعين ظلوا ينظرون بعين خلاّقة الى مسألة التزاوج ، الذي كان من الطبيعي أن ينشأ بين الأدب والسينما . فالإبداع الأدبي ، كما قلت ، لم يتوقف عن محاولة خلق الصورة وتحريكها في مخيلة القاريء .
والسينما قادرة على تجسيد تلك "الصور" ، وفي بعض الأحيان ، على كبح جماح الخيال الذي يتمتع به القاريء ، لكي لا يتجاوز ما يرمي إليه الأديب .. شيء من الواقعيه !

ربما صارت إحدى مهمات الرواية الأدبية هي رفد السينما بالموضوعات .. لو جف المعين . وربما أصبحت إحدى مهمات السينما هي نشر العمل الأدبي ، أو التعريف به ، على نطاق أوسع من الكتاب .. خصوصا حيث ترتفغ نسبة الأميه .
لكن ضربا من ضروب الإبداع السينمائي ، له دوافعه ومبرراته ، ما زال وسيظل يعتني بإعادة "رواية" القصة أو الرواية الأدبيه .

هنا نعود الى موضوعنا. حيث أود أن أؤكد أنه لا بد من أن يحمل العمل السينمائي ، المبني على عمل أدبي ، مبررات ظهوره في هذا الثوب الجديد ، أو هذه اللغة الأخرى . وهي نفس المبررات التي يحملها ظهور عمل أدبي يعالج قضية سبقت معالجتها في عمل أدبي آخر .

إنه ، في نظري ، محاولة إلقاء أضواء جديدة ، من زوايا جديدة ، على شخصية ما أو حدث ما أو علاقات ما .. من شأنها ، على الأقل ، أن تخفف من حدة الظلال .
أعود بالذاكرة الى ذلك الخلاف الذي نشأ بين "محمود دياب" ، ككاتب سيناريو ، وبين مخرج ومنتج أحد الأفلام المأخوذة عن "رواية عالميه" ! كان سبب الخلاف ، الذي أدى الى انسحاب محمود في النهاية ، هو مفهوم التعريب أو التمصير عند "رجال الأعمال الذين لفت نظرهم إختراع السينما " .
لا يكفي ، مثلا ، أن نطلق على "هاردي" اسم "هريدي" ، ونمضي في ترسيمه ، وإلباسه أثوابا ليست له ، بينما الآلاف من هذا "الهاردي" يتجولون بيننا بأسماء مختلفة .
إن "تمصير" الشخصية هو البحث عن شخصية مصرية لها مبرراتها الخاصة ، ودوافعها الناتجة عن بيئتها لنفس السلوك الذي سلكته الشخصية الأصلية .. "هاردي" !

* * *

كنت أشعر، بعد منحي الضوء الأخضر من "محمود دياب" ، أنني أحمل في يدي "كشافا" أسلطه على مواقع معينة من الرواية. وفي يدي الأخرى عدسة مقربة ، أو مكبرة ، أضعها فوق كلمات معينة . وأشعر أيضا أنني من خلال "رواية" محمود دياب ، بلغته الأدبية ، قد تعرفت على شخوص وأماكن وأحداث وعلاقات أثارت إهتمامي ، مما ولّد عندي الرغبة الملحة في إعادة "روايتها" باسلوبي الخاص .. ولغتي السينمائيه الخاصة .
هل هو الفارق بين "البورتريه" المرسوم بالألوان الزيتية أو المائية .. والصورة الفوتوجرافية التي تلعب فيها الإضاءة وزاوية التصوير ونوع العدسة دورا هاما ؟
نسيت أن أقول أننا ، "جماعة السينما الجديدة" ، في ذلك الوقت لم نكن نملك رفاهية الحلم بعمل فيلم بالألوان ! بالرغم من أن أجواء كلية الفنون التي كانت خلفية الأحداث .. كانت تقتضي ذلك !

* * *


قلت أن كتابة السيناريو استغرقت ما يزيدعن العام . وكانت "روز" البطلة قد كبرت عاما آخر. وجاءتها "الفرصة" الحقيقية على شكل عريس ثري (!) فكان لا بد من أن أسعى لمقابلة ذلك المنتج الذي حدثني عنه محمود دياب .
استقبلني الرجل ببشاشة أبوية .. وأنا "أتأبط" السيناريو كدليل على جديّة المقابلة ! وتحدث عن المخرجين الشبان ، وكنت في ذلك الوقت أحدهم ! وعن رغبته في التعاون معهم في حل "أزمة السينما"! فهم أمل الحاضر.. وعماد المستقبل و .. وحمدت الله أن هداني الى معرفة "محمود دياب"، الذي منحني بدوره تلك الرواية ومعها منتجها ، الذي يبدو جاداٌ هو الآخر .
لم يبق سوى أن يطلب مني ترك السيناريو لقراءته .
لكنه ، لشدة إهتمامه ، طلب مني أن أعطيه فكرة عن موضوع الفيلم . فما كان مني إلا أن وضعت السيناريو أمامه على المكتب النفيس الفاخر .
أزاحه جانبا ، وأشار لي أن أتكلم !
إنه يتعجل معرفة موضوع فيلمه القادم . وكنت بدوري أتعجل نهاية المقابلة ، لكي أزف البشرى لجماعتي - جماعة السينما الجديده - بالفرج الأقرب مما كنا نتوقع .
ولم أكد أبدأ في سرد ملخص الحكاية عن الشبان الأربعة .. الطلبة في كلية الفنون .. والفتاة الصغيرة التي يرتبط بها أحدهم ، حتى انبرى يقدم اقتراحاته ، وتعليماته كمنتج صاحب تجربة طويلة :
- فليكن اسم الفيلم "أربع تلامذه .. وبنت" !
(على غرار فيلم "أربع بنات .. وضابط" ، الذي سجل في حينه نجاحا تجاريا !)
واسترسل يرشح لي أسماء الأبطال !
ولما رأى الدهشة على وجهي .. استدرك .. وأخذ يذكرني بمزايا ذلك الشيء الذي يسمونه "ماكياج" .. ومفعوله السحري في اختصار عشرات السنين من عمر الأبطال !
- أُمّال !

قالها وهو يتلذذ بإتقانه للهجة المصرية ، إتقانه لأصول "لعبة" السينما .
وخرجت من عند المنتج متأبطا السيناريو، وأنا أشعر أنني أجدر بلقب "تأبط شرّاً" من ذلك الشاعر العربي ، الذي بحثت عنه أمه - طفلاً - في البادية .. لتجده يتأبط ذئبا صغيرا ضالا ظنّاً منه بأنه حمل وديع ! فأطلقت عليه أمه ذلك اللقب الذي اشتهر به .

ودأب محمود دياب على مداعبتي بلقب "تأبط شرّاً" .. وهولا يكف عن تحذيري بأنه لا مكان للحملان في زماننا هذا .
هل كان يعني أنني تأبطت شرّاً باختياري لتلك الرواية ؟
أم أنني قد تأبطت الشر بإختياري لتلك "المهنه" بالذات ؟!

في أول اجتماع لـِ "جماعة السينما الجديده" .. كنت أمام خيارين .
أن "أطنش" حكاية المنتج ، فيتهمونني بالاستهتار والتفريط بالفرص .
أو أن أحكي لهم ما انتهت إليه ، فيشبعونني "تريقة" . فقررت أن "أطنش" .
و يكفيني ما نلته ، عندما اضطررت لأن أزف إليهم بشرى زواج "البطله" .. في الاجتماع السابق .

كان لا بد من أن نطرح موضوع المشاركة على الطريقة الألمانية . والحقيقة أن الجميع تقريبا قد أبدوا حماسهم واستعدادهم للفكرة . ولكن ، بعد القيام بعملية حسابية ، تبين أننا سوف ننتظر أعواما كثيره ! حيث كان المبلغ الذي يستطيع أيسرنا حالاً أن يساهم به ، لا يتجاوز الخمسة جنيهات شهريا .
وهكذا اقتصر نشاط "جماعة السينما الجديدة" على الندوات والدراسات وأسابيع العروض السينمائية المختلفة ، التي كانت أيضا من الأهداف التي خططنا لها . هذا الى جانب نمو فكرة فيلم آخر للزميل "علي عبد الخالق" .. عن مسرحية الكاتب "علي سالم" .. "أغنيه على الممر" .
وتوالت نشاطاتنا .. و"أسابيعنا" .
وفي أحد الإجتماعات تقرر تقديم المشروعين ، "الظلال ..." و "أغنيه ..." ، لمؤسسة السينما آنذاك ، بعد أن قمنا ببلورة أسلوب المشاركة بأجورنا ، التي كانت في مجموعها جزءاً لا يستهان به من ميزانية الفيلمين . على أن نتقاضى هذه الأجور، بعد ذلك ، من إيرادات الأفلام !

* * *


بقدرالحرية التي منحني إياها محمود دياب في معالجتي لروايته ، كنت حريصا على عدم المساس بأوجه الإبداع فيها .. بناء ، ومضمونا ، ولغةً !
لم يكن السرد الرباعي الذي يعتمد على فكرة تعدد الرواة في الأدب والسينما ، حيث تتكامل روايتهم أو تتعارض أو تتقاطع ، وتخلق من القاريء أو من المشاهد شريكا في الحدث وصناعته ، بجديد على الأدب .. ولا السينما . ومع ذلك ، كان هناك من ينصحني بأن أختار شكلاً سردياً أسهل . خصوصا وأنني كنت إزاء أول عمل سينمائي روائي طويل . وظلت هذه النصيحة تلاحقني الى ما بعد الانتهاء من التصوير .. الى مرحلة "المونتاج" ، أو تركيب الفيلم .
والحق أقول ، أن محمود دياب كان حافزاً لي على ممارسة حقي في "رواية" روايته سينمائيا ، بالشكل الذي أراه .

"الظلال في الجانب الآخر" .. ذكرني هذا العنوان بالنظرية الضوئية التي تقول أننا إذا سلطنا ضوءاً على جسم ما ، فإننا سنرى له ظلاًّ في الجهة المعاكسة . وإذا سلطنا ضوءاً آخر من تلك الجهة المعاكسة على نفس الجسم ، فإننا سنحصل على ظلين متقابلين بحيث يكون كلا الظلين أخف حدة من الحالة الأولى . فإذا سلطنا ضوءاً ثالثـــــــاً مساويا لكل من الضوئين السابقين على نفس الجسم من الجهة الثالثة ، فإننا سنحصل على ظل ثالث .. بحيث نلحظ نقصانا في درجة حدة الظلال الثلاثه . أما إذا سلطنا ضوءاً رابعاً مساوياً في القوة لكل من الأضواء الثلاثة السابقة ، من الجهة الرابعة .. فسوف تختفي كل الظلال !
وهكذا كانت روايات محمود دياب الأربعه ، التي تتكون منها رواية "الظلال ..." ، تساهم في إزالة الظلال .. أو تخفيف حدتها على أقل تقدير .
ولم أجد حرجا من تلخيص تلك الفكرة في عبارة كنت أريد لها أن تظهر على الشاشة في بداية الفيلم . لكنها ، لسبب ما ، لم تجد لها مكانا إلا في "النشرة" ** التي لم يتم توزيعها إبّان العرض !
"ما أكثر ما تخفيه الظلال من حقائق ..
ولكي نرى واقعنا بدون ظلال ..
لا بد من أن تتعدد مصــــــــادر النور ! "
هل هناك من شك في أن "محمود دياب" كان يقع تحت إلحاح فكرة الحرية بمعناها المطلق ؟!
حتى علوم "الطبيعة" وقوانينها .. كانت توحي أو تملي بوجوب تعدد مصادرالنور .. مصادرالمعرفه .. مصادرالرأي .. والرأي الآخر!

كان "جميل" ، الشخصية المحورية في الرواية ، منقسما في داخله . يتحدث ويتباهى بشجاعته حينا .. ثم يعود ويعترف بخوفه حينا آخر . وهو صادق في كلتا الحالتين .
أو ربما كان يتميز عن غيره بأنه كان يمتلك الشجاعة لأن يعترف بالخوف !
عندما كان "محمود دياب" يقرأ ذلك المشهد من السيناريو، الذي يهذي فيه "جميل" ، تحت تأثير الحمى التي أصابته ، نتيجة لما أوصلته إليه مواقفه المستهترة :
- سيرياليه .. تكعيبيه .. قوميه عربيه ..

فوجئت به ينتقل ، من القراءة بصوت مسموع ، الى "الأداء" المعبر، وكأنه تقمص الدور . وقام ، بعفوية شديدة ، نتيجة لانفعاله ، بإضافة بسيطة لم يفتني أن أقوم بتثبيتها في السيناريو . قال مكملاً :
.
- ... يهود .. أميركان .. بَلا أزرق !

ثم أكمل الأداء :
- ... الإنسان الحر هو أساس المجتمع الحر !

هل كانت قناعتي بأن "جميل" ، الرافض المتمرد الضائع الخائف ، هو بعض من "محمود دياب" ، هي السبب في تسميتي للبطل في الفيلم "محمود" .. بدلا من "جميل" ؟!
________________________________________________________
** قام الفنان حلمي التوني بتصميم النشرة إضافة إلى تصميم "بوسترات" الفيلم المتميزة .. وبعض الإسهامات الفنية الأخرى


* * *

- ولماذا "عُمر" **؟
سأل أحدهم ، عن تلك الشخصية التي أضفتها الى الرواية الأصليه . ذلك الطالب الفلسطيني ، في كلية الفنون الجميلة ، وأحد سكان العوامه .
أجاب "محمود دياب" :
- ذلك هو الجانب الآخر . ذلك هوالتفسير الجديد ، الذي يجب أن يحتمله العمل الإبداعي .

واكتفيت بهذه الإجابه . وتحاشيت ، في حينها ، أن أعترف أن "عُمر" كان بعضا مني ، أوأنني كنت أتحدث بلسانه. ولم يفت ذلك على الكثيرين !
________________________________________________________
(**) ".. وفي الظلاال في الجانب الآخر يقدم محمود ياسين أحد أحسن أدواره ، ويلمع أحمد مرعي في دور نقيضه المثالي (مصطفى) ، ومحمد لطفي في دور الشاب الفلسطيني (عمر) .." .. .. .. الناقد سمير فريد.


"عُمر" طالب فلسطيني ، لاجيء ، أتاح له أخوه الأكبر، الذي يعمل في إحدى دول الخليج ، شأن معظم أبناء جيله ، فرصة الدراسة الجامعيه ، فالتحق بكلية الفنون الجميلة .
ودأب "عُمر" على أن يحلم بـِ "مشروع التخرج"، شأن بقية الطلبة في
سنواتهم الدراسية الأخيره . كل يحاول أن يجسد همومه واهتماماته في "مشروعه". وكانت "سكتشات" عُمر في البداية تصورالبؤس والعراء والتشرد في "معسكرات اللاجئين .." ، مشروعه. حيث كان الحديث عن " قضية فلسطين" قد تحول بفعل التقادم الى حديث عن "اللاجئين الفلسطينيين" .
لكن "الهزة" التي أصابت عُمر، عندما رأى "معسكرات الفدائيين" في أغوار الأردن ، في إجازته الصيفية لعام 66 ، جعلته يقول لأحد زملاء العوامة ، وهو يعرض عليه اسكتشات ** مشروعه الجديد :
- بقى لنا 18 سنه بنرسم لاجئين .. وبنخلِّف لاجئين !
حاقول إيه أكثرمن اللي اتقال ؟
حنفضل نلف وندور وبالآخر .. "إنناعائدون" !
( ساخرا من لوحة أو"بوستر" فلسطيني شهير حمل هذا الإسم في ذلك الوقت. )

وقرر "عُمر" أن يعايش "الفدائيين" لمدة أخرى لكي يقوم بالتحضير لمشروعه الجديد .
عاد الى "الأغوار" قبيل شهر يونيو من عام 67 . انقطعت أخباره .
ثم جاءت منه رسالة ، بعد يونيو 67 ، من الضفة الشرقية للأردن ، الى أحد رفاق العوامة.. "بكر". يقول فيها :
"لقد وجدت الطريق الذي أستطيع به أن أعبرعن نفسي وعن قضيتي .. خصوصا بعد أن أصبحت للمرة الثانية بلا وطن" ..
"لم يعد لدينا ما نخشى أن نفقده .. .. "
إذن ، فقد وجد "عُمر" طريقه. انتقل من حال المسيَّرالى المخيَّر، الذي ربما يخطيء .. ولكنه سوف يتحمل نتيجة خطأه ، بعد أن تعوَّد على الشكوى ، وإلقاء اللوم على الآخرين . وأصبح دأبه العمل على تحقيق
قناعاته التي أخذ يجهربها، والتي تؤكد أن حل القضية الفلسطينية يكمن

في إعلان دولة علمانية يعيش فيها اليهود والمسلمين والمسيحيين في ظل نظام ديمقراطي .. يتساوون فيه في الحقوق والواجبات .
هذا .. مثلما تلمّس بقية زملاء العوامة طريقهم بعد التيه .. والتخبط !
___________________________________________
(**) استخدمت في الفيلم اسكتشات الفنان "محمد حجي" التي رسمها عندما كان في زيارة معسكرات الفدائيين في "الأغوار" .

* * *

أما "مصطفى".. المثالي الساذج .. الذي"ستظل مثالياته جدارا بينه وبين الحقيقه" .. حسب تعبير"محمود". فقد صاغ "محمود دياب" رأيه في هذا النمط من الناس صياغة أشفقت عليها من تحويلها الى حوار بالعاميه ، مما سوف يفقدها الكثير من قيميتها. وكان المَخرج الذي ارتأيته للمحافظة على تلك الصياغة باللغة الفصحى ، هو قراءة مختارات منها - مونولوج داخلي بصوت مصطفى - بحيث يوحي سماعها في الفيلم بأنها من نصوص مذكرات مصطفى الذي تعمدت الإشارة ، أكثر من مرة ، إلى عادته في تدوين مذكراته .

* * *

وإذا كانت "روز" قد نجت من الموت ، بعد محاولتها الانتحار، واستطاعت - في النص الأصلي - أن "تعبُر" من أزمتها الى حياة جديدة .. عاملة في محل لبيع الزهور. فقد أنهيت الفيلم ، حيث كنا كلنا نحلم بالعبور، بلقطة لها في حديقة المستشفى ، بعد نجاتها . بينما نسمع صوت "محمد حمام" ، الذي قام بدور "بكر"، وهو يغني أغنية وجدت كلماتها في "بريد القراء" لإحدى المجلات . كتبها شاعر ناشيء - في ذلك الوقت - هوالشاعر "عبد الستار سليم" ، الذي كان ينادي من أعماق الصعيد :
النيل مسافر من زمان .. زي الزمان
بين الجنادل تجرحه.. لكنه عارف مطرحه
. . . . . .
. . . . . .
النيل ده عمر .. ممكن يطول بيه السفر
ممكن يعوق سكته مليون حجر
ممكن يتوه .. ممكن يلف
المستحيل إنه يجف ! **

_________________________________

** كنت قد عهدت للشاعر "عبد الرحيم منصور" بكتابة أغاني الفيلم فرحب بذلك بعد أن قرأ السيناريو وتناقشنا في مضمونها ومكانها في سياق الفيلم كتب لي ثلاث أغان (البداية والمنتصف والنهاية) । لكنني ، بعد تسديد حقوق صديقي الشاعر المالية ، والإعتذار له عن عدم توظيف أغنياته الثلاث في الفيلم ، قمت باستدعاء الشاعر الناشئ ، في حينها ، والتعاقد معه على استعمال قصيدته التي قرأتها مصادفة في بريد القراء بمجلة المصور ।

* * *


ولمحمود دياب حكاية أخرى (*) ..


قبل حوالي عشر سنوات ، وبعد عام أو يزيد من عودتي إلى القاهرة ، إثر الخروج من لبنان .. عام 1982، ركبت القطارالمسافرالى الإسكندريه. وعلى المقعد المقابل ، كان هناك رجلان يتحدثان بصوت مسموع ، بحيث لم يكن من الصعب أن أتبين موضوع الحديث الذي استغرق النصف الثاني من الرحله . كان أحدهما يذكِّر الآخر بتفاصيل دقيقة من تمثيلية تلفزيونيه . ولم يكن من الصعب أيضا أن أتبين ، منذ البداية ، أن موضوع الحديث كان يدور حول ثمثيلية السهرة "رحلة عم مسعود" ، التي ظل "محمود دياب" يبحث عن نصها المفقود الى أن وجده ، وقمت بإخراجه للتلفزيون عام 72 .
التزمت الصمت ، مستمتعا بحديثهما بكل ما فيه من تفاصيل و "إضافات" وتعليقات . وتملكتني الرغبة أن أسأل ، في النهاية ، عن المناسبة التي ذكرتهم بتمثيلية مضى على عرضها الأول عشر سنوات . هل أعيد عرضها في التلفزيون مؤخرا ؟!
مستحيل ! فمعلوماتي تقول أن كل "شرائطي" قد مسحت ، واستخدمت لتسجيلات أخرى !
وتلك حكاية أخرى .
وقبل أن أحدد اللحظة التي سوف "أقحم" نفسي فيها بذلك الحديث ، الذي "يخصني" أيضاٌ ، اصطدمت أذناي بصوت أحد الرجلين الغريبين وهو يقول :
- ... الله يرحمه ! **
ثم يكمل حديثه.
ألجمتني المفاجأة . لم أعلق ولم أتدخل .
تركتهما يترحّمان على صديقي الكاتب .. يعطيانه بعضاً من حقه ، بعد وفاته .
حرصت على ألاّ أشاركه ، أوأقتسم معه ، تلك اللحظات الفرِحة .

من "محمود دياب" عرفت كيف يضحك الإنسان بملء فيه .
ومن بعده تساءلت ، كيف يمكن لإنسان أن يعرف الفرح .. والحزن يسكن فيه ؟!
___________________________________________
(*) هذا العنوان مقتبس من عنوان الجزء الأخير من رواية "الظلال في الجانب الآخر"
(**) انتقل محمود دياب إلى رحمة الله في 12 من أكتوبر 1983


* * *



عن "التواضع" و "إنكارالذات" ..!

عندما كنت أعتصر ذاكرتي مستجيبا إلى دعوتي للمشاركة في ملف الكاتب "محمود دياب" ، المشار إليها آنفا ، كنت أحاول أن اتجنب شبهة الظهور بمظهر من ينسب لنفسه فضلا أو دورا أكبر من دوره .
قلت لنفسي :
يكفيك فخرا أن يشملك الاختيار لهذه المشاركة في مجلة جادة لها وزنها مثل مجلة "أدب ونقد".
لكن .. لم يكد يظهر ذلك العدد من المجلة حتى فاجأني صديقي د. مختار يونس ، الأستاذ بمعهد السينما ، وعضو "جماعة السينما الجديدة" ، بتهمة المبالغة في التواضع وإنكارالذات (!) وأخذ يذكرني بأشياء لم تكن تعني لي سوى أنها كانت تصب في محاولة تحقيق هدف وأمل مشترك .

أما صديقي ، وعضو "جماعة السينما الجديدة" البارز، كاتب السيناريو "فايزغالي" ، فقد أخذ يؤكد لزوجته الكاتبة والناقدة "ماجده موريس"، بحضوري ، أن دوري وصل من الأهمية ما تجاوزما ذكرته ، في المقال المشار إليه ، إلى القيام بصياغة البيان الصادرعن "جماعة السينما الجديدة" يوم إعلانها(!) وهو الشيء العاري تماما من الصحة . وأجدني مضطرا لتوضيح ذلك الإلتباس .

قلت أن الكاتب والناقد الأستاذ "رجاء النقاش" قد منحنا صفحتان من مجلة الكواكب الفنية ، أسماهما "مجلة الغاضبين " ، لنستعرض فيهما أفكارنا وطموحاتنا وإنجازاتنا . فقمت ، في العدد الأول ، بترجمة بيان حركة جماعة "السينما الألمانية الشابة" في ألمانيا الإتحادية ، المعروف في ذلك الوقت ببيان "أوبرهاوزن" الشهير ، إلى اللغة العربية .
ولقد كان البيان يعبرعن موقف ومطالب تلك "الجماعة" ، التي لم تختلف عن موقفنا ومطالبنا نحن أيضا كـ "جماعة سينما جديدة" ، ومماجاء فيه:
..............
ونحن هنا نجاهر بالتمسك بحقنا ودورنا في خلق سينما جديدة ..
هذه السينما الجديدة تحتاج إلى حريات جديدة ..
حرية من عبودة السينما التقليدية ..
حرية من سيطرة "الشبّاك" والربح ..
حرية من كل وصاية.
..............
وانتهى البيان بتوقيعي ، بدون ورود كلمة .. "ترجمة"!
وهو في اعتقادي الخطأ الذي أدى إلى الإلتباس المشار إليه .

أما البيان الآخر الذي ظهرت ترجمته في عدد لاحق من المجلة المذكورة فكان هو بيان حركة السينما الجديدة في أميريكا ، الشاطيء الشرقي، الذي أعلنوا فيه ثورتهم على سينما الشاطيء الغربي (هوليوود) التي اتسمت ، في نظرالقائمين بحركة السينما الجديدة ، بتزييف الواقع .
وكان أن جاء في البيان نداءهم الشهير :
...............................
نحن لا نريدها أفلاما وردية..
بل نريدها حمراء مثل الدم .

وهنا كانت الطامة الكبرى . فلقد اتُّهِمنا ، نحن "جماعة السينما الجديدة"، من قبل عدد من المسئولين ومنهم ، كما جاء في مكان آخر من هذه السيرة ، وزير الثقافة يوسف السباعي ، بأننا شوية عيال شيوعيين (! )
والبقية معروفة !
* * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق