الإسكندريه .. "خاص جدا"
عندما لاحت لي الإسكندرية من بعيد وهي تفرد ذراعيها متثائبة على شاطيء البحر، ومرحبة بالعائدين ، في ذلك الصباح الباكر، الثالث من أيلول (سبتمبر) 1967، عادت بي الذكرى إلى المرات السالفة التي كنت فيها أغادر ذلك الميناء ، بعد قضاء جزء من الإجازة الصيفية ، حيث كانت "هي" تلوّح لي بيدها مودعة ، بينما كنت ألمح ، وأنا أقف على سطح ذات الباخرة الإيطالية "إسبيريا" ، عن بعد عشرات عديدة من الأمتار، شفتيها المزمومتين في مشروع قبلة وداع خفية تحاول أن تسرّبها لي من وراء المودعين من الأهل والأصدقاء .
* * *
في رحلتي الأخيرة من الإسكندرية ، قبل خمسٍ من أطول السنوات ، كان ثمة شبح يقين ينمو في أعماقي أنه .. "مشهد النهاية".
كان والدها ، خالي ، قد وضعني أمام خيار حاولت ، عبثا ، بكل ما أوتيت من قدرة على المرونة و الطاعة ، أن أتقبله .
* * *
"فلاش باك" ..
كنتَ ترى، عام 1953 ، إثر نهاية دراستك الثانوية في "غزة" وانتقالك لمواصلة الدراسة الجامعية في مصر، وبعد أن صدمت بضجيج مدينة القاهرة وكدت أن تختنق وتضيع في زحامها (ذلك في عام 1953) ! ، أن الإسكندرية أقرب في طبيعتها وهدوءها وبحرها إلى نفسك . بحرها الذي يذكرك بطفولتك ويكاد يعيدك إلى جزءعزيز من مهدها . وبيت خالك الذي تفوح فيه رائحة الوطن ، ويذكرك ببيته في "يافا" قبل أن ينتقل منها عام 1946مديرا لفرع المؤسسة الفلسطينية ، البنك العربي ، في الإسكندرية .
هذا بالإضافة إلى تواجد بعض أصدقاء و زملاء الدراسة الثانوية فيها ، مثل "إبراهيم شرف" في كلية الطب و "ماجد بسيسو" في كلية التجارة ، مما جعلك تنفرد بقرار نقل أوراقك من هندسة القاهرة إلى هندسة الإسكندرية .
وحقيقة الأمر أن فكرة وجودك في نفس المدينة التي يعيش فيها خالك ، والذي كان مثلك الأعلى في كل صفاته وتفاصيله ، كانت دافــــعا آخـــــر له جذوره منذ طفولتك وصباك المبكرين .
لكم كنت دائما تحلم وتتمنى أن يصبح لك ، لفرط محبتك وإعجابك به ، بيت منظم مثل بيته .. ومكتبة حافلة بالكتب واسطوانات الموسيقى مثل مكتبته .. وزوجة جميلة حنونة مثل زوجته .. وأولاد أذكياء مثل أولاده .. يجيدون العزف على آلة "البيــانو" الساحرة التي تتصدر المكان .. ويملأونه بهجة وسعادة .. إلخ .
وبالرغم من تفرده بالرأي و صرامته التي باتت تصدمك في بعض الأحيان ، و تزعجك في كثير منها ، وتسبب لك حيرة في أمره ، إلا أنه ، خالك ، ظل محتفظا بذلك الركن من قلبك .
كان يرى، ولعله محق في ذلك ، أن القاهرة وجامعتها العريقة هي الأنسب لدراستك ، خصوصا وأن "مجموعك" في التوجيهية (الثانوية العامة) قد أهّلك للقبول فيها .
لم يغفرلك أنك "لا تدرك قيمة نصائحه وحكمتها" ، وأنك خالفته .. و"كسرت كلامه".
بات يتهمك بأنك كنت لا تعبأ بنصائحه و"تتحداه" في خطواتك الغير محسوبة (!)
هذا إلى جانب ترديده دائما بأنك لا تقدر تضحيات أخيك الذي يكدح ويشقى في السعودية ، وأنك ترهقه بمصاريفك الزائدة عن اللازم .. سينمات .. ومجلات .. ونادي .. و"شياكة" و "صرمحه" (!)
ومن ثم كان لجوءه إلى الحجر على المبلغ الشهري الذي رآى أخوك "عابد" أن يحوّله لك ، عن طريق فرع البنك العربي في الإسكندرية ، عن طيب خاطر ، لأنه كان ، كما كان يردد لك دائما ، "يريد أن يحقق لك كل ما كان يتمناه لنفسه ".
لكن ... ...
- .. أنا خالك ومسئول عنك هنا .. إنت ولد طايش .. وإذا كنت مش عارف مصلحتك .. أنا أعرفها أكثر منك .. ولازم تسمع كلامي وتنفذه بدون مناقشة !
سلسلة طويلة من "تحدياتك" التي كان يتصورها .. ومن ثم مضايقاته التعـسفية التي كانت تصدر عنه لأنه كان يتصور، أيضا ، أن من شأنها أن تحد من "طيشك" المزعوم .
وأنت تحاول عبثا كسب ثقته التي حرمك منها لأسباب تـنم عنها شخصيته الصارمة . شخصية "المدير"**
الذي ، كما وصفه بعضهم ، قد تضخمت ذاته ، مما زاد من عشقه لها ،
لدرجة حالت دونه والقدرة على الإعتراف بحق الآخرين في اختياراتهم .. وفي معتقداتهم وقناعاتهم .
___________________________________
(**) بدأ حياته العملية بعد أن تخرج في الجامعة الأميريكية ببيروت مديرا لمدارس مختلفة في أنحاء فلسطين ( عكا .. وصفد.. والخليل ..) ختمها مديرا لمدرسة العامرية الثانوية في يافا .. ومن ثم (1946) مديرا لفرع البنك العربي ، المؤسسة الفلسطينية ، في اللإسكندرية.
* * *
هل يمكن لزلّة لسان غير مقصودة منك أن تكون سببا في تشويه صورتك في نظره إلى هذا الحد ؟!
كان لا يمل من معايرتك بأنك تهدر وقتك ولا تستغله في المذاكرة . ولا يمل من طرح نفسه كمثال يحتذى به والتباهي بأنه ، أثناء دراسته الجامعية ، كان لا يترك ساعة من وقته تضيع هدرا . بل إن مجموع ساعات مذاكرته لدروسه كان يتجاوز العشر ساعات المتواصلة يوميا .
في ذات يوم لم تجد ما تدافع به عن نفسك سوى أن تؤكد له ، وعن قناعة وتجربة وأدلة واضحة تشهد بها تأشيرات أساتذتك في كراسات المواد العملية في كلية الهندسة ، بأنك لا تحتاج لأكثر من ساعة أو ساعتين من المذاكرة الجادة المنظمة يوميا لكي تحصل على شهادات الامتياز التي يراها في الكراسات . وذلك ما أعتبره إهانة له .. دلت على ذلك ثورته ومواقفه المتعنتة بعد ذلك .. .. ..
-.. .. يعني إنت اللي عبقري زمانك يا .. .. .. طب هاي ذقني إذا عمرك فلحت !
وأصبحت ، يا مسكين , مضربا للمثل في العناد والطيش . وألفيت نفسك ، منذ ذلك اليوم ، سامحه الله ، بكل بساطة .. وكما يقولون .. "مش نازل له من زور" .
وانتهيتَ ، بعد معاناة دامت حوالي ستة أشهر كدتَ فيها أن تفقد القدرةعلى الحفاظ على"شعرة معاوية"، التي أوصاك بها أخوك"عابد"، إلى قرار لاعودة فيه بالعودة أدراجك إلى "غزة"، مطالبا أخاك أن يحصل لك على عقدعمل قريبا منه
في السعودية ، لكي تعمل هناك وتدخر وتستقل ماديا .. فتذهب للدراسة التي تريدها .. في المكان الذي تريده .
ولولا أن عادت لأخيك "عابد" ذكريات معاناته ، هو أيضا ،
وكما أسرّ لك لاحقا ، من استبداد "المدير" في السنوات الخوالي ، حينما كان لا بد من اللجوء إليه بعد الهجرة من القدس ليجد له عملا في أي مكان ، لما أدرك معاناتك ، ولما غفر لك أنك خرجت عن طوعه هو الآخر .
سافرتَ إلى السعودية للعمل هناك ، حيث لم يساورك الندم لحظة واحدة لاتخاذك تلك الخطوة ، وحيث عدت إلى حظيرة أخيك "عابد" ، معلمك وأستاذك ، بعد حرمانك من رعايتة لسنوات خمس ، مدة الدراسة الثانوية ، بعد الهجرة من "القدس" ، لاضطراره للعمل لكسب العيش في "جدة"، بعد حرمانه من إتمام تعليمه الجامعي إثر فقدان والدنا لوظيفته . وحيث أتاح لك وجودك إلى جانبه إمكانية التسلح بخبرات ومعارف لكثير من الأمور الحياتية والعلاقات الإنسانية التي كنت تفتقر إلي مثلها أثناء غيابه .
ولم يلبث أن انتقل خالك أيضا بمفرده من الإسكندرية للعمل في "جدة" ، في الوقت الذي حددتَه لإنهاء عملك هناك ، حسب خطتك المرسومة ، والعودة لمواصلة الدراسة .
عدتَ في عام 1956إلى الإسكندرية ، التي غدت مقرا صيفيا لشقيقتك "إكتمال" وزوجها وأولادها المقيمين في "جدة". فكان أن أقمت في ذلك المنزل . وكانت حرب السويس ، أو ما يعرف بالعدوان الثلاثي ، وبالتالي إحتلال"غزة" من قبل القوات الإسرائيلية ، سببا في تأخر سفرك إلى "فيينا" لاستئناف دراستك الجامعية حتى أواخر مارس 57 .
كان لا بد من الانتظار ، ريثما تطمئن على والديك القابعين كالأسرى في "غزة" المحتلة ، وعلى سلامة وصولهما للاستقرار في الإسكندرية .
شهور من الترقب والوحدة قضيتَََها في الإسكندرية ، لم يكن لك فيها من عزاء سوى مراسلة الجامعات الأوروبية وأكاديميات الفنون هناك ، و ساعات "دروس التقوية" المتلاحقة في مادة الرياضيات ، التي جمعتك مع إبنة خالك ، والتي كانت كافية لكي تحقق هي نجاحا ملموسا في تلك المادة ، و تحقق أنت نجاحا في سعيك للاقتراب منها .
هذا إلى جانب الدفء الذي كان من شأنه أن يخفف من معاناة التوتر الناشيء عن الظروف الطارئة ، والذي كانت توفره لك الأجواء الأسرية وأوقات الراحة والاستماع إلى الموسيقى التي كانت تهواها فتاتك .. استماعا .. وعزفا .
وباختصار .. كانت تلك الساعات كافية لكي تتآلفا .. وتتعارفا .. وتكتشف ما لديها ، غير حسنها ورقتها ، من صفات كان من شأنها أن تزيد من تسارع خفقان قلبك لها .
عندما تعود لتسترجع تلك الذكريات (وكثيرا ماكنت ، ومازلت ، تفعل ذلك بتلقائية تغمرها متعة لا حد لها) تعود لتتساءل :
ماذا لو لم تكن هناك "دروس التقوية" تلك ؟
لم تجد سوى إجابة واحدة لذلك السؤال ، لأنك في الحقيقة كنت أنت الذي أتاح للأمور، وفرض عليها ، أن تسير في هذا الاتجاه . فلم تكن تلك السويعات هي التي جعلت قلبك يخفق لها .
خفقات قلبك ، بلا شك ، هي التي أوحت بما يستدعي فكرة اللجوء لتلك "الدروس" .
و خفقات قلبك لها كانت ، قطعا ، تسبق ذلك بأمد طويل .
صحيح أنها كانت في تلك البدايات البعيدة مجرد صبية .. في ربيع العمر وريعانه .. ولكنها ( وربما كنت ترى في ذلك ، بداية ً، ما يكفي من المزايا) كانت إبنة خالك .. الذي تحبه ، وتتخذه مثلا أعلى لك .
كنت أنت ذلك الحالم ، الغارق في الرومانسية ، الذي كان يضع مثله الأعلى نصب عينيه ، ويرى أن يقتدي به ليصبح له في مستقبل العمر ذلك الشأن .. والبيت والزوجة والرفاء والبنين (!)
* * *
ومن "فيينا" .. بادرتَ بإرسال بطاقة تهنئة ، بمناسبة عيد ميلادها ، كانت بمثابة "الضوء الأخضر" الذي أتاح إلى تدفق سيل لا ينقطع من الرسائل ، لينمو حبكما ويتزايد ، من خلال صفحاتها المتزايدة ، التي حملت اعترافاتكما المتبادلة ، كما أسهبت ، بدون حرج ، شيئا فشيئا ، في وصف الأشواق والحنين .
هل كان ما قالته في اعترافاتها لك بعد ذلك عن ميلاد مشاعرها المبكرة ، هي أيضا ، نحوك في ذلك الماضي البعيد هو مجرد محاولة منها لتأكيد وتأصيل مشاعرها نحوك ، إعتقادا منها بأن في ذلك ما يرضي غرورك ؟
هل المشاعر المتأججة هي التي تجعل المرء يغرق في البحث عن وسائل تتصف بما هو فوق العادة للتعبير عن عمقها ؟
ثم .. تتوالى نجاحاتك في دراستك ، يحدوها إحساسك بالسعادة والرضى ، والتوازن الذي يخلقه ويضاعفه حب متبادل يترعرع من عام إلى آخر، يتخلله زيارات صيفية للإسكندرية ، تملأ فيها ، كما كتبتَ لها في أحد المرات ، عينك وقلبك من لحظات السعادة المقتنصة ، زادا لأيام الغربة المقبلة .
ومن ثم .. ترى أمك أن تكلل نجاحاتك بالتمهيد لحلم الأمهات .. بمباركة تلك العلاقة الجميلة التي لم تعد خافية على أحد .. وإعلان الخطوبة .
كانت أمّك بالنسبة لأخيها ما تزال هي الأخت الكبرى التي لا يملك إلا أن يحقق لها رغبتها . وكانت إمرأة خالك الطيبة ، التي رعت حبكما وأحبته منذ أن رأته بريقا في عيني ابنتها ، عاملا مساعدا هامّا في إقناع خالك بالتسليم بالأمر. بل كانت ، لشدة قناعتها ومباركتها ، محرِّضا نبيلا لأن تتكلل تلك العلاقة الجميلة بزواج عاجل ، يبرره ويدعمه تشجيع الأم لرغبة الإبنة على استكمال دراستها في بلد الموسيقى"فيينا". لا سيما بعد أن أصبحت أختها الكبرى على وشك اللحاق بأخيها للدراسة في أميريكا .
لكنه ، ولشدة دهشتك ، سامحه الله ، لم يتركك تهنأ بأجمل لحظة كنت تنتظرها .
لم تكد تُلبس حبيبتك ، وتُلبسك هي ، دبلة الخطوبة ، في ذلك الحفل العائلي الضيق ، ذات إجازة صيفية ، حتى ربّت على كتفك من خلفك و قبض على ذراعك وأقتادك إلى الشرفة حيث أدلى لك على انفراد ، وبمنتهى القسوة ، الغير مبررة في تلك اللحظة ، بقراره الحاسم الغريب :
-..وإوعك تحلم بالزواج ..إلا بعد ما تنفذ كل شروطي ..كلها ..فاهم !
وبدي أشوف كلام مين اللي راح يمشي هالمرّة !
ظلت كلماته الجارحة تدوي في أذنيك .. تقهرك .. تبكيك .
في لقاءاتك معها ، حيث كنت تقرأ في عينيها تساؤلات باحثة عن أسباب حزنك الصامت ، الدامع أحيانا ، كنت ترى أن الإجابة عليها ربما تزيد الطين بلّة ، فتؤثر الكتمان .
شتان بين تلك الصورة التي برعت رسائلكما في رسم تفاصيلها والاستطراد في الترتيب لبناء ذلك الذي اتفقتما على تسميته بـ "البيت السعيد" .. وبين الواقع الأليم الذي يشي به ذلك التصريح الجارح .. البالغ القسوة .. الباعث على القلق والتشاؤم . والذي يجعلك تكاد أن تضيع بين الشك واليقين .
كأنما كان يعتبر فوزك بقلب ابنته ( يا للغرابة !) ، بمثابة "انتصار" لك .. و .. "هزيمة" له .
ولكم حاولتَ أن تتخلص من ذلك الخاطر الذي لا يخلو من سذاجة . لكن سرعان ما كانت تتسرب إلى مسامعك ، في أوساط العائلة ، أقاويل توحي بأنه كان يعاني من بوادر "هزيمة" أخرى تتراوح أمامه بسبب إصرار ولده البكر (الذي اجتهد هو منفردا في تشكيل ورسم مستقبله ) على اختيار شريكة حياته وتحقيق أحلامه بالزواج من زميلتة التي بادلته الحب طوال فترة دراستهما الجامعية . قصة حب رائعة تغنّى بها وأحبها وباركها الجميع .. ما عداه (!)
أما عن موقفه من قصتك أنت .. فكانت سلسلة شروطه تكاد أن تكون من قبيل التعجيز، ومما كان يتيح له ، كما يبدو، الشعور بـ "استرداد الهيبة" :
العمل ، بعد التخرج ، سنتين تلاته ، لاكتساب الخبرة وللحصول على "مركز" في السعودية ، التي انتقل هو للعمل فيها مديرا مؤسسا لأحد البنوك الجديدة في السنوات الأخيرة .
وأخيرا ، وليس آخرا ، تكوين "الرصيد" الملائم في البنك لضمان المستقبل لإبنته !
حدثتَ أمك في ذلك الوقت فيما كنت تراه :
- .. مسألة التخرج بديهيه . وهو محق في ذلك إلى حد ما. أما اكتساب الخبرة في مجال دراستي فهو متاح لي في "فيينا"، مثلا ، وبدخلٍ مغرٍ يفوق دخلي في أي مكان آخر . وأما العمل في السعودية أو غيرها من دول الخليج (وقد جربته وذقت مرارته) فهذا هو المستهجن والمرفوض نهائيا جملة وتفصيلا .
(هذا .. إلى جانب ما كنتَ تبيته ، وما لم يحن الوقت للجهر به بعد ، من استكمال الدراسة والتخصص في الإخراج السينمائي في نفس الأكاديمية .)
أماعن "الرصيد البنكي".. فقد ردت أمك على ذلك وهي تعاتب أخاها ، كما رُوِي لك بعد ذلك ، إذ قالت له فيما قالت ، بدافع من شعورها بالأسى :
- .. مارأيك ، كمدير بنك قادرأن يطلع على أرصدة عملاءه، أن تختارمنهم من يناسبك .. لكي"تناسبه"؟!
وبالله عليك॥ ما هوالفرق ، إذا ما أصبح إبني من ذوي المراكز وأرصدة البنوك ، بينك وبين أي رجل آخر لنناسبه ؟!
* * *
تبادلتما بعد ذلك الرسائل التي كانت تتضمن محاولات منك لرأب الصدع بينك وبين خالك . لكنه كان يصرعلى أن محاولاتك هذه لا تحمل إلا الاستهانة بآراءه وحكمته .
حتى رسائلها أصبحت تكاد تحمل نفس الكلمات . وماعادت تحتل ذلك العدد من الصفحات التي كانت فيما مضى ، ولعدة سنوات ، تزخربمعاني الحب المتراقصة فوق وبين سطور الرسالة لتحمل إليك أرق المشاعر وأجملها .
ثم .. جاءت رسالتها الأخيرة لك ، مختصرة ، مروَّسة بما لا يترك مجالا للشك بأنك قد خسرت المعركة .
فبعد أن اعتدتَ على أن تروي أشواقك بعبارات مثل "الحبيب الغالي" في بداية رسائلها ، جاءت رسالتها الأخيرة جافة قاحلة :
"إبن العمة" العزيزة .. !
وعادت الهيـبة إلى أصحابها . بل ترددت في أوساط العائلة بعد ذلك أقاويل توحي بأنها كوفئت من أبيها بإرسالها مع شقيقتها لإتمام دراستها في أميريكا . وذلك ما لم يلق عندك سوى الاستنكار.
تُرى .. هل صحيح ما يقال بأن الشخص الذي تحبه هو في الحقيقة من اختراعك ونسج خيالك ؟
وأنه من الخطأ ، كل الخطأ ، أن تسرف في الخيال فتجعل من محبوبتك كل مناك ومنتهاك .. وكل جنتك
وفردوسك ؟
كم ذا من الأمور ما يسوق المرء ، بالرغم من يقينه من صدق مشاعر الآخرين ، إلى إعادة تقييمه لكل ما فات .. حتى لو كان في ذلك ما يؤدي إلى ما يشبه ويقارب "جلد الذات" !
* * *
أقول أنني "لم أقدّرعقباه" ، ذلك الخطأ ، ولا أقول أنني أعترف به أو أنكره . لأنني كنت في موقف يشبه موقف من لا يملك ، دفاعا عن النفس ، سوى أن يكون أو لا يكون .
ففي لحظة ما لم أجد ما أدافع به عن تهمة الأنانية وحب الذات ، وعدم احترام ومراعاة ما قد يكون للأخرين من اختيارات ، التي دأب خالي سامحه الله على وصمي بها ، لدرجة اضطررت معها أن أبعث له بإحدى الصفحات من رسائل إبنته التي كانت تشكو لي فيها من وحدتها .. وإحساسها بالظلم والقهر وعدم احترام مشاعرها واختياراتها.
تماما مثلما دفعتُ ، ذات يوم ، لطيِّب الذكر بكراسات المواد العملية ، في كلية الهندسة في الإسكندرية ، دفاعا عن تهمة الإهمال وعدم الإحساس بالمسئولية التي وصمني بها في ذلك الوقت ، فكنت بذلك عرضة لشتى أنواع العقاب المهين .
وخطأي كان هو اللحظة المناسبة التي مكنته من الفوزبالضربة القاضية ، وذلك عندما أعاد إرسال الصفحة المذكورة لصاحبتها . مع العلم بأن رسالتي له كانت تحتوي على رجاء حار أن يبقى ذلك الأمر سرا بيننا . فلم يكن في تصرفي نية فضح مشاعرها بقدر ما كنت أريده أن يعرف مدى قسوته على كلينا . كما كانت رسالتي تحتوي على وعد مني بأن أرضى بعد ذلك بأي حكم يرتضيه ، وأن أكتم مشاعري ، وأن لا أعود إلى إثارة موضوع الزواج إلا بما يراه هو . وذلك احتراما مني له ، تماما كما كانت ابنته تكتم مشاعرها احتراما لما يراه .
* * *
كثيرا ما ساءلت نفسك :
هل كان هناك ثمة بصيص من الأمل في أن تتجنب حبيبتك الوقوع في شرك الظروف التي وضعَتْها ، من حيث لا تدري أنت ، في موقف الاختيار الصعب ..؟
وهل كان باستطاعتها أن تختار غير الوقوف إلى جانب "الحكمة" التي كثيرا ما تقسوعلى عواطفنا ؟
والحقيقة أنك لم تعف نفسك من الوقوف أمام مثل هذا السؤال . هل كان باستطاعتك أن ترضى بالتنازل عن اختياراتك وقناعاتك ؟
كنت في ذلك الوقت قد اتخذت قرارا مصيريا وتدابيرا لم يحن وقت إعلانها ولم تشرك فيها أحدا سوى أخاك "عابد" ، الذي أيدك بدون مناقشة أو تحفظ . ذلك كان قرارك بالإتجاه إلى التخصص في الإخراج السينمائي . وذلك إثر قناعة اشتد رسوخها بأنك سوف تكون أكثر نفعا لقضيتك الوطنية من خلال هذا المجال .
فكّرت في حينها .. وأطلت التفكير ..
مازلتَ في بداية الطريق الطويل الذي رسمته لنفسك ، وما زال أمامك الكثير من المواقف التي تتطلب منك حسما وإصرارا على اختياراتك ، التي تحتمل النجاح كما تحتمل الخسارة .
أمّا أن تخسر نفسك ، باختيارك أنت ، فهذا هو عين المستحيل .
وكأنما اكتفيتَ ، راضيا بقدرك ، بذكراها التي كانت ، وما زالت ، لها بريقها السحري .. يلمع مضيئا بين الحين والآخر .
ولم تشعر يوما بأقل من كل الوفاء و الإحترام لتلك الذكرى .
وتمضي السنوات .
* * *
(بقية) " فضـــــفضـــــه " ..
كم هالك ، في يوم عودتك النهائية تلك ، في 3 سبتمبرعام 1967 ، أن يغمرك فجأة ذلك الشلال الجارف من الحنين ، بعنف لم تألفه من قبل ، لماض لم تنمح حلاوته من ذاكرتك . كأنك ، شأن أهل الكهف ، قد أفقت بعد سبات دام لمدة سنوات ، منذ أن رأيتَها لآخر مرة ، آن ذهبتَ للقائها في لبنان ، عام 1962، لتتبادلا كلماتكما الأخيرة .
* * *
وهل يمكن أن تتراكم كل هذه الأشواق المكتومة لتتأجج بعد كل هذه السنوات ؟
هل يعقل أن تجد نفسك فجأة تدقق النظر، كما كنت تفعل في عوداتك الصيفية السابقة ، بحثا "عنها" بين المستقبلين .. على رصيف الميناء ؟
كيف تخطر لك تلك الخاطرة البلهاء بعد مرور تلك السنوات ؟!
هل يمتلك الحب صفات طائر الفينيق ، الخرافي ، لينبثق من رماد الماضي فيسيطر على أفكارنا وعقولنا .. ويخدرها بـما تجود به كلمات مثل "ربما" .. و "لعل" .. و "ليت" ؟!
أم أن ذلك الإحساس (وذلك هو الأرجح) ما كان إلا تجسيدا لمعنى الخلاص من قسوة الاغتراب ، وتعبيرا عن أشواقك المتأججة ولهفتك العارمة لكل ما له علاقة بـالأهل .. و "الوطن" .
* * *
نهاية .. وبداية ..
كانت إجراءات الدخول من ميناء الإسكندرية ، وإجراءات تخليص العدد الكبير من الحقائب والكراتين التي لم يشفع لدخولها إلا شهادة مكتب البعثات المصرية في فيينا التي تثبت أننا ، "سامي رافع" وأنا ، نعود عودة نهائية بعد إنهاء الدراسة في الخارج । ولقد استهلكت تلك الإجراءات نهارنا بكامله بحيث أصبح من المتعذر أن نقوم بتخليص سيارتينا أيضا ، مما اضطرنا إلى تأجيل هذه العملية ، على أن نبكر في الحضور إلى جمارك الميناء في اليوم التالي ।
* * *
وانقضت اللحظات الأولى الحارة من لقاء الوالدين والأخوات ، ولم تلبث أن أخذت تتأقلم تدريجيا مع نسمات خريف الإسكندرية الباردة (!)
وكان لا بد من الحديث عن الغائبين .
أخوك "عابد" اتصل في وقت متأخر ليعبر عن فرحته لعودتك ، مكللا بالنجاح ، وأسفه لعدم تمكنه من استقبالك في الإسكندرية ويؤكد وعوده بلقاء قريب .
"خالك" أيضا كان قد أناب من يعتذر عنه .. بسبب وعكة قلبية .
أمك ما زالت تتحسسك فرحانة ثم تحتضن وجهك بكفيها وتنظر إليك بعينيها وكأنها تحاول أن تقرأ في وجهك ما يجول في خاطرك في تلك اللحظة . ثم تنهمر دموعها .
* * *
أبي يقول لي وهو يلوح لي بيده أن أتناسى وأسامح :
- .. بكره يا بْنَيّي بتروح بتجيب سيارتك من المينا .. وبتيجي بتاخد إمّك لتزور خالك المريض . لِسّاتْها بعد كل هالسنين ماخده على خاطرها منه .. من يوميها ما داست عتبة داره !
فوجئت .. بل فُجعت .
يستحيل أن أسمح لهذا الجفاء الذي كنت أنا سببا له ، بين أمي وأخيها ، أن يطول ولو لـيوم واحد آخر !
في اليوم التالي استغرقت إجراءات الإفراج المؤقت عن السيارة ، منذ الصباح الباكر، ساعات طويلة من النهار عدت بعدها منهكا .
لم يكن هناك أحد في بيتنا .
ربما فضلوا ، فكّرت ، إنتظاري في بيت شقيقتي "إكتمال" .
هناك عرفت من أطفالها أن الجميع قد سبقوني منذ ساعات الصباح إلى بيت خالي ।
كان مدخل العمارة الصغيرة يعج بالسيارات । وقبل أن أبادرالبواب بالسؤال ॥ قال لي :
- .. تعيش إنت !
وافته المنية قبل أن يصبح الصباح !
وتوافد الأبناء تباعا من القاهرة .. مقر أعمالهم .
"ن" وزوجته . "م" وزوجها .
و .."هي" .. وزوجها (!)
كم ذا من الصدمات ما يفقد المرء صوابه .. أو يعيد صوابه إليه !
* * *
تلفزيون ج. م. ع.
في أواخر نوفمبر 67، تم تعييني مخرجا في تلفزيون مصرالعربيه. وربما يرجع الفضل في ذلك لصدفة لا تخلو من الطرافة .
لدى وصولي إلى الأسكندرية ، حيث استقر والداي وأخواتي من بعد معاناتهم لاحتلال "غزة" عام 1956 ، توافد بعض الأقارب وأصدقاء العائلة للتهنئة بتخرجي وبسلامة وصولي إلى أرض الوطن "العربي" .
كان من بين المهنئين سيدة كثيرا ما كنت أسمع إسمها يتردد على ألسنة أفراد العائلة إعجابا بشخصيتها الودودة وصداقتها .. "دولت هانم" .
سألتني ، بعد أن عرفت مني كل ما تريده عن دراستي ، عن خطواتي المستقبلية . فقلت لها أن "إدارة البعثات" قد طمأنتني بأن "مكتب التنسيق" سوف ينظر بعين العناية في أمر توظيفي في مؤسسة السينما (!)
قالت ضاحكة بمودة وبدون حرج :
- موت ياحمار .. .. ..
ثم أردفت وكأنها كانت تضمر ذلك مسبقا :
- طب ما تكتب طلب للتلفزيون .. وهات لي صوره منه مع صور من شهاداتك .. وأنا أديهم لمحمد إبن أختي في إيده ..
ولما قرأت في عينيّ دهشة وتساؤلا عن هذا الـ "محمد" ، إبن أختها ، أردفت قائلة :
- .. ده "محمد فايق" .. وزير الإعلام !
إعمل حسابك بكره أو بعد بكره بالكتير تكون الصور عندي عشان بالليل أنا عازماه عالعشا عندي في البيت !
كنت قد تقدمت بالفعل بطلب لإدارة التلفزيون ، بالرغم من تطلعاتي للعمل في السينما . لكنني فعلت ذلك استجابة إلى نصائح الأصدقاء المتكررة ، وعملا بالحكمة الشعبية القائلة :
"إلعب بالمقصوص على بال ما ييجيلك الطيّــــــــار!"
* * *
في زيارتي الأخيرة ، قبل تخرجي ، كانت الإسكندرية تحتفل بمهرجان التلفزيون لعام 66 مما أتاح لي التعرف على السيد الفاضل الإعلامي الكبير"سعد لبيب" ، مدير عام البرامج ، الذي استصدر لي "كارنيه" يمكنني من حضور فعاليات المهرجان كضيف ، ولم ينس أن يؤكد لي ضرورة الإتصال به بمجرد عودتي بعد تخرجي .
عندها رحب بي "سعد لبيب" وشجعني على تقديم طلب الإلتحاق بالعمل في التلفزيون ، بعد أن شاهد فيلم تخرجي ، "حكايه" ، في عرض خاص .
وعندما زرته في أواخر نوفمبر 67 للسؤال عن مصير طلبي قال لي معاتبا :
- أنا زعلان منك ..
ولم ينتظر حتى أعبر عن استغرابي .. فأكمل عتابه :
- .. إيه اللي خلاك تروح لسيادة الوزير ؟!
واحد زيك يابني .. بالفيلم الجميل اللي إنت أخرجته .. وكل الشهادات المشرفه اللي حاصل عليها .. مش محتاج لوساطة حد !
وده برضه كان رأي وتعليق الوزير نفسه .
أسقط في يدي . ووجدتني مضطرا لقول الحقيقة بحذافيرها لكي أؤكد أنني لم أذهب للوزير وإنما .. ..
لم يتمالك "سعد لبيب" نفسه من الضحك إزاء ترددي .. فتساءل مازحا :
- إنما إيه .. هو اللي جالك ؟!
- لأ مش هو .. خالته !
* * *
واضطررت بعد أن شكرت "دولت هانم" .. أن أطلب منها أن تحكي القصة بحذافيرها لإبن أختها الذي لم أره إلا بعد ذلك بحوالي عشرين عاما ، حيث جمعتنا الصدفة على كرسيين متجاورين في طائرة متجهة من القاهرة إلى تونس .
وكانت تلك القصة ॥ بداية لحديث طويل شيق مع الوزير السابق الذي غدا أمينا عاما للمنظمة العربية للدفاع عن حقوق الإنسان ।
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق