السبت، 15 مايو 2010

"سيد درويش" .. في فيينا (!)



وللموسيقى والغناء معي حكايات ، لا تخلو من دلالة ، وطرافة ، تمتد منذ مولدي* في دار مقدسية تقع ، في حارة الواد، فوق مقهى "سْبيسْ النمْسا" ** الذي لا يسكت مذياعه عن بث الأغنيات إلا ليلبّي رغبة بعض رواده في سماع نشرة الأخبار من " محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية". ثم يعود ليستأنف وظيفته ولايسكت إلا بانتهاء فترات البث الإذاعي من مختلف المحطات ، ليبدأ صوت "الجراموفون" الذي حرص عمي "أبوصالح" ، صاحب المقهى ، على تزويده بأحدث اسطوانا ت "بيضا فون". وعندها لا يسكت صوت ذلك المطرب إلا ليبدا صوت مطربة أو مطرب آخر في اللعلعة. فإذا أغلق المقهى أبوابه وعاد السكون إلى دارنا بعودة أبي من "القهوة".. عاد صوت مختلف المطربين إلى التسلل إلى أذني.. يحرضني على الدندنة بأغانيهم .

أما في فيينا ، فقد شاءت الصدف أن أسكن بداية في إحدى غرف "فيللا" تقع في أطراف المدينة ، في الحي الثالث عشر*** ، كانت تمتلكها وتسكنها سيدة من سلالة أرستقراطية مع حفيدها الذي رفضت زوجة أبيه، الطبيب المشهور، أن تتكفل بالعناية به. وعند وفاة السيدة لم يبق في البيت سوى حفيدها "أولريش" الذي كان قد أصبح شابا يدرس في كلية الطب ، وممرضتها الخاصة "يوتا"، التي ظلت تسكن إحدى غرف الفيللا مقابل إشرافها على شؤون "أولريش" وساكن آخرهو طالب من كندا إسمه "موري شيفر" كان يدرس الموسيقى في "فيينا".
_____________________________________________
(*) عام 1934، آن قامت شركة "ماركوني" ببث أول إرسال إذاعي مصري على الهواء .
(**) مقهى شعبي في بلدة القدس القديمة يقع أمام مبنى"هوسبيس النمسا" الشهيرالذي بناه قيصرالنمسا "فرانتس جوزيف" عام 1860 لاستقبال الحجاج الكاثوليك .
(***) تنقسم مدينة فيينا ، إداريا ، إلى 23 حيا سكنيا .

كان "موري" يمتلك مذياعا من طراز"عسكري"، ظل يحتفظ به بعد أن أنهى خدمته العسكرية في كندا ، بإمكانه أن يلتقط أي إرسال إذاعي يخطر بالبال . ولقد دأبت، بعد أن توطدت علاقتي بـ "موري"، على إلتقاط محطة إذاعة "البرنامج الثاني" ، و"صوت العرب" ، ومواصلة الإستماع لبرامجهما المختلفة .. حتى أدمن "موري" نفسه على سماع الموسيقى والأغاني العربية .. ودأب على تحيتي صباح مساء بترديده للحن "أمجاد ياعرب أمجاد" المجيد .. بل وأصبح بمرورالوقت من عشاق "أم كلثوم".. لا يمل عن السؤال عن أسماء الملحنين للأغاني التي كانت تسترعي إهتمامه مقدماتها الموسيقية بالذات.
كان يحدثني بلغة المصطلحات المتخصصة عن تفاصيل لم أكن أفهمها .. ويردد دائما أن " سِنْباتي" أو"أسَبْجي" أو"هَمْدي" أو "أبدِلْوَخّاب" مؤلف تلك المقدمة أوغيرها كان بإمكانه عمل سيمفونية كاملة من تلك الجملة الموسيقية أوغيرها لو أنه اهتم بدراسة .. تلك "التفاصيل" .
أذكر من ملاحظاته أن من صفات الموسيقى الشرقية أنها "ثنائية العناصر" ، اللحن أوالنغم الأحادي الصوت ، والإيقاع . بينما تتميز الموسيقى الغربية بعناصر أخرى مثل تعدد الأصوات ، الـ "بوليفونيه" ، مما يساعد على تكثيف النغمات ، إلى جانب اعتمادها على الـ "هارمونيه" التي تقوم بتوزيع الألحان وتكثيفها وإثراءها.
مع "موري" ، ومن ثم "يوتا" وطائفة أخرى من المحرِّضين والمحرضات ، اكتشفت متعة جديدة هي متعة "الإستماع الجماعي" . فبصحبته دخلت لأول مرة صالة الـ"كونسيرت" ليزداد يقيني بأن الموسيقى عبارة عن أداة لتغذية الوجدان والإرتقاء بالعواطف.. والإنتصار لهما ، ولأعرف أن الإستماع الجاد للموسيقى الجادة شكل من أشكال الصلاة .
ولم يلبث "موري" ، إثر سماعه لتعليقى هذا ، أن أصرعلى اصطحابي، في أحد أيام الأحد التالية ، إلى كاتدرائية "فيينا" الشهيرة Stephanskirche حيث حدثني عن الموسيقار الألماني"يوهان سيباستيان باخ" وأسمعني نموذجا من موسيقاه الكنسية ، وحيث ازداد يقيني بالعلاقة بين الموسيقى وبين الصلاة و محاولات التقرب إلى الله .
الموسيقى ، كما يقول "باخ" ، هي الإسم الدارج لروح الإنسان .
وهي تمتلك القدرة على الشفاء ، لأنها تغسل الروح من غبار الحياة اليومية.
وهي ، كما يقول "بيتهوفن" ، وسيط بين الحياة الروحية والمادية . كما أنها وسيلة لخلق حالة سحرية تمتلك من القدرة ما يستطيع أن يغير العالم .

الموسيقى ترتبط بالعقيدة ارتباطها بالشعر .. والحب .
إنها الحب وهو يبحث عن الكلمات ، كما وصفها أحد الفلاسفة .
وهي كما قال "مارتن لوثر" واحدة من أعظم عطايا الله للإنسان .
أو، كما يقول"سرفانتس" :
يختفي الشر من المكان الذي توجد فيه الموسيقى .

الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي لا يحتوي قاموسها على أي تعبير يتسم بالبذاءة . وهي مقياس للحضارة ، بسبب قدرتها على التأثير في المشاعر وتهدئة الإنفعالات .
وبدونها ، كما يقول "نيتشه" ، تكاد الحياة أن تكون إثما .
وإذا كانت اللغة التي يحدثنا بها الكون هي الألوان ، كما ينشد "طاغور" فلا أقل من أن نرد عليه بالموسيقى .

في صالة "الكونسيرت" يرغمك الإنصات الجماعي ، أو يغريك ، على التأمل والتفكير ومن ثم الاستمتاع بالحالة التي تنقلك إليها الموسيقى بشكل محسوب ومدروس، بحيث تتوصل ، بينما الموسيقى تملأ الأرجاء والمكان سحرا ، إلى القيمة الذهنية التي توحي بها المقطوعة .
وكماهي الحال في المسرح ، حيث يشعرالمؤدي بمسؤولية رسالتة تجاه المتلقي مباشرة فيوحي بإحساسه بمضمونها أكثر من أن يقوم بترديد كلماتها، كذلك يوحي العازف للمستمع ، مباشرة ، بإحساسه الطازج بالنغمة أو المقطوعة أكثر من أن يقوم بعزفها .
قلما يصلك هذا الإحساس بينما أنت تستمع للموسيقى من "راديو" أو "فونوجراف" أو أي وسيلة أخرى غير مباشرة .
وكما تحكي الكاتبة الروائية النمساوية "إلفريده ييلينيك" ، صاحبة الرواية ذائعة الصيت .. "عازفة البيانو" :
"لن يصل الإنسان إلى أسمى ما لديه من قيم إلا عندما ينفصل عن الواقع واهبا نفسه طوعا لمملكة الحواس."
ففي صالة "الكونسيرت" ، أو"الأوبرا"، تدرك معنى أن ينفصل المرء ،
باختياره ، وبكامل وعيه ، عن واقعه ليهب نفسه لمملكة الحواس .
هناك ستكتشف فعلا أن "الصمت" أيضا موسيقى ، وأنه جزء أساسي من الجملة الموسيقية التي يعرّفها البعض بأنها تتابع لأصوات تصدرها آلة ، أوعدة آلات موسيقية متنوعة ، تعلو وتنخفض ، لفترات متباينة لتتناغم مع فترات أخرى ، تقصر أو تطول ، من الصمت .

في تلك الصالات ، يتجلى تأثيرالموسيقى في السلوك البشري ، فنلاحظ أن المستمعين ينتظرون حتى تحين لحظات الفواصل بين المقطوعات لكي يعودوا إلى واقعهم ، فيقومون بتعديل جلساتهم على المقاعد، حيث أنهم كانوا قد أحجموا عن ذلك لاإراديا ، خشية أن يزعجوا بحركتهم هذه الجالسين إلى جوارهم أثناءالعزف ، (شيء من فضيلة احترام الآخر) ، أو لكي يقوموا بتسليك حناجرهم التي أصابها الجفاف جراء التزام الصمت .. فتسمع عندها مقطوعة متواصلة من العزف الجماعي المتنوع على "مفاصل" المقاعد .. و"حناجر" الحاضرين !
الموسيقى ، في إعتقادي ، تجسٌد "قيمة" إنسانية عالية ، حيث يلتزم أفراد الفريق الموسيقي ، أوالكورال ، بقاعدتين ذهبيتين :
يبدأون سويا .. وينتهون سويا .
تجمعهم لحظات إنسانية يهبون فيها أنفسهم لما سمي بـ"العمل الجماعي".
ذلك مما يجعلنا نشعر بالتفاؤل من أجل مستقبل البشرية.

* * *

ولقد استمرت صداقتنا ، "موري شيفر" وأنا ، بعد أن انتقلت إثر مرور عام، للسكنى في "الحي الثاني" ، قريبا من أكاديمية الفنون التطبيقية مقر دراستي، حيث وصلتني منه رسالة، من القاهرة ، يقول فيها أنه قرر دراسة الموسيقى العربية .
أما المايسترو المصري "كمال هلال" فلم تكن سكناه في نفس البيت الذي أسكنه في "الحي الثاني" مجرد صدفة ، لأنني سعيت إلى ذلك .. حبا في الموسيقى والموسيقيين . ولم أندم على فعلتي هذه إلا بين حين وآخر(!) وغير ذلك فقد كان كمال إنسانا رقيق الجانب ، أكثر ما شدني لصداقته هو صدقه وطموحه وكفاحه وإصراره الذي تبدّى في حكاياته لي عن تفاصيل نشأته يتيما في جو شعبي متواضع منذ أن عمل ترزيا في طفولته .. إلى أن عمل في محل لبيع الآلات الموسيقية .. ومن ثم "إنحرافه" ، حسب تعبيره الساخر ، إلى "مهنة الموسيقى" .. إلى أن أصبح وهو في الخامسة عشرة "عازف تشيللو" على مسارح "روض الفرج" .. إلى أن أصبح عازفا مميزا على تلك الآلة في فرقة "أحمد فؤاد حسن" الغنية عن التعريف .. وما تبع ذلك من محاولاته الجريئة الدؤوب للحصول على البعثة الدراسية لقيادة الأوركسترا والتأليف الموسيقي في فيينا .

أدخلني "كمال" إلى عالم الموسيقى من باب أحد مشاهيرها العظام وهو أحد رواد وأساتذة فن الأوبريت النمساوي ، "فرانتس فون سوبيه" Franz von Suppe . فقد كان ، استعدادا لـ "امتحان تحديد المستوى" للقبول في الأكاديمية ، يقوم بتدريب يومي على آلته بالعزف المنفرد المكتوب لآلة الـ "تشيللو" في افتتاحية أوبرا"الشاعر والفلاح" ، رائعة الموسيقي المذكور.
أسرتني تلك الآلة التي لم تكن تلفت انتباهي من قبل . وكان من البديهي أن أتطلع إلى معرفة العمل المذكور كاملا . وما زلت حتى الآن أحتفظ بالأسطوانة التي كانت من أوائل ما جمعته في مكتبتي الموسيقية .

في أحد الأمسيات.. سهرنا "سعيد الجمل" ، الذي كان والده يمتلك "كازينوالجمل" في شارع الهرم ، وهو يدرس إدارة فنادق في فيينا ، و "كمال هلال" وأنا ، في أحد المطاعم الشهيرة Rathauskeller، "حانة دارالبلدية" ، حيث تكتظ بروادها في أمسيات أيام السبت ويطول فيها السهرعلى أنغام الموسيقى والأغاني الشعبية الجماعية الفييناوية المرحة .
تساءلت في تلك الأمسية ، وكثيرا ما تساءلنا ، عن سبب نقص الأغاني الشعبية الجماعية لدينا ، التي كثيرا ما نحتاج للمشاركة في ترديدها في مختلف المناسبات . ففي كثير من المناسبات التي تستدعي المشاركة بالغناء الجماعي يطول بحثنا عن أغنية لنرددها كمجموعة ، أسوة بزملاء لنا من بلدان أوروبا المختلفة في تجمعاتنا الطلابية ، فلا نجد سوى أغنية "والله زمان ياسلاحي" أو تلك الأغنيات الحماسية التي اشتهرت في تلك الحقبة من الزمن (بعد عام 56) .
انفعل المايسترو "كمال هلال" ، إحساسا منه بأنه معنيّ بهذا التقصير، وأخذ يبين خطأ تلك الفرضية محاولا دحضها بأن يستعرض أغنيات تعود إلى عهد ازدهار المسرح الغنائي .. منذ أيام فنان الشعب "سيد درويش" مثلا ..
ويفسر لنا هذا النقص ، أوالتناقص ، باندثار ذلك النوع من المسارح . وفي مقابل ذلك انتشار الأغاني الفردية التي تهتم بالتطريب .. بما في ذلك من حشد لنغمات "الربع تون" .. واستعراض لـ "العُرَبْ" التي تميّز صوت ذلك المطرب عن غيره .
وهنا خطرت له فكرة لم نتكهن بها في البداية .
طلب من النادل ان يحضر له ورقة وقلما . وأخذنا نرقبه وهو يرسم على الورقة سطورا خمسة متوازية متقاربة يتبعها بسطور خمسة أخرى إلى أن امتلأت الصفحة .. وأدركنا ما هو مقبل عليه .
أخذ يدندن ويدوّن النوته الموسيقية لأغنية لم تكن بعيدة كل البعد عن متناول ذاكرتي . كانت أغنية سيد درويش :
" الحلوه دي قامت تعجن في الصبحية " .
ثم أخذ يلقننا كلمات الأغنية و يقودنا لترديدها بصوت خفيض .. إلى أن اطمأن لنجاح التجربة ، فأشار للفرقة الموسيقية التي تعودت أثناء عزفها التجوال بين موائد الصالة الواسعة لتلبية رغبات الزبائن وتشجيعهم على المشاركة.. وسرعان ما أخذت الفرقة بالإقتراب منا بالتدريج وهي تعزف لحنا مألوفا يردده جميع الحاضرين نساء ورجالا في جذل .
انتظر حتى انتهت الأغنية . وقبل أن يبدأ الفريق ، المكون من عازف الأكورديون وعازف الكمان وعازف الكونترباس ، بأغنية أخرى ، كان "كمال" قد أعطى الورقة ، التي تحتوي على النوتة الموسيقية لأغنية "سيد درويش" ، لقائد الفرقة الذي تناولها وأخذ يتهامس مع رفاقه برهة.. ثم وضع الورقة على مائدتنا وتحلق الثلاثة حولنا وأخذوا في عزف الأغنية .. بينما نحن ، بقيادة "كمال هلال" ، نردد كلماتها .
في البداية ران الصمت في أرجاء الصالة فيما عدا صوت الآلات الثلاثة وصوتنا مشاركا بترديد كلمات الأغنية . ثم ابتدأت همهمات الجمهور الموقـّعة المشاركة تتزايد بالتدريج.. وأخذت الأصوات تعلو شيئا فشيئا.. بينما استغنى أفراد الفرقة الموسيقية عن الورقة الموضوعة على المائدة ، بعد أن حفظوا اللحن الجميل ، الذي يتصف بأسلوب "سيد درويش" ، "السهل الممتنع"، وابتدأوا كعادتهم بالتجوال بين الموائد ، وقد انتقل الحماس من مائدة لأخرى إلى أن أصبحت عشرات الحناجر تصيح سويا مرددة ذلك المقطع المميز :

" والديك بيدّن .. .. كوكو كـــــوكو .. م الفجريه" .

ويحكى أنه ، بعد ذلك ، قد درجت الفرقة الموسيقية على عزف موسيقى أغنية فنان الشعب "سيد درويش" تحية لضيوف "حانة دارالبلدية" الشهيرة في "فيينا"، الذين يتوسم فيهم أفراد الفرقة أنهم من أصول عربية أو شرقية .

* * *

من الأشياء التي وضحها لي "كمال هلال" ، في ذلك الوقت ، كانت مشكلة "الربع تون" في موسيقانا. وقد شرحها لي ببساطة وهو يجلس إلى آلة البيانو . قال أن السلم الموسيقى الغربي يحتوي على الـ "تون" الكامل ، وهو مانسمعه عندما نعزف على أصابع البيانو البيضاء (المقام الكبير) ، و"النصف تون" , وهو ما نسمعه عند العزف على الأصابع السوداء للبيانو (المقام الصغير).
أما السلالم ، أو المقامات ، الموسيقية العربية المتعددة فيحتوي الكثير منها على نصف النصف .. أي "الربع تون" **، وهوالصوت الذي لا تستطيع الآلات الغربية إصداره . ولقد وضّح لي ذلك سبب عدم استساغة الأذن الغربية أحيانا لأغانينا المؤلفة حسب "مقامات موسيقية" يكون ذلك "الربع تون" جزءا أساسيا فيها .

إلا أن هناك المقامات الشرقية التي لا تحتوي على تلك النغمة الغريبة التي لم تتعودها الأذن الغربية. مثال ذلك "مقام النهاوند" .. أو"مقام حجاز" الذي صاغ به الموسيقار، فنان الشعب "سيد درويش " ، لحن أغنية "الحلوه دي قامت تعجن .. " .

* * *
_________________________________
(**) نمى إلى علمي بعد ذلك ، والله أعلم ، أن "الربع تون" ، "الربع نغمة " ، هو الإسم الدارج .. أما التسمية العلمية الصحيحة فهي : "ثلاثة أرباع النغمة" .

"أوبرا" و "باليه" ..

"ماريا" كانت أيضا أحد وأهم المحرضين على مواصلة تجربة "الاستمتاع الجماعي" لأهم ما اشتهرت بها "فيينا".
كانت كثيرا ما تفاجئني بأن والدها، الذي تتيح له علاقاته أن يحصل ، بين حين وآخر، على تذكرتين للكونسيرت أو للأوبرا الفلانية أوالباليه الفلاني، قد عاد واعترف (كما كانت "ماريا" تداعب والدها) بأن اهتماماته تتنافى مع إهدار ساعتين أو ثلاثة من وقته ليقضيها في انتظار أن تسدل الستارة على تلك "الأوبرا" أو ذلك "الباليه" .
هذا بينما كنت أنا أشارك القائلين بأن الموسيقى مطلب ضروري للإنسان، ثم أصبحت أومن بأن تأثيرها لا ينحصر في الإمتاع الحسي والسمعي بل يتجاوزها إلى الإمتاع الذهني . فما بالك عندما تكون موسيقى "الباليه" مكتوبة لكي تعزفها ، بمشاركة الأوركسترا ، أجساد آدمية بحركات رشيقة مدروسة لتكون عملا متكاملا يروي "دراما" متكاملة لا تحتاج إلى كلمات ، ولايعوزها تفسير أو شرح أو ترجمة .

* * *

تعيدك موسيقى"باليه بحيرة البجع" إلى أوقات كنت تقضيها إلى جانب "ن" في الإسكندرية ، في مطلع فترة ولادة اهتمام أحدكما بالآخر ، في ما قبل عام 56 ، تستمعان إلى "الجراموفون" ، الـ"بيك أب" ، وهو يدور بإحدى أسطوانات مكتبة خالك الموسيقية ، مما كان يعتبر بالنسبة لك من أوائل الفتوحات في عالم الموسيقى العالمية !
كان خالك يجتهد ليشارككم متعته بأن يحاول أن يصور لكم ذلك الجو الرومانسي الأسطوري .. وأن يروي ويفسرأحداث الباليه الذي شاهده في آخر جولاته الأوروبية .
"أوديت" ، الأميرة ، التي تصيبها لعنة الساحر "فون روتبارت" ، إنتقاما لصدها له ، فتحولها مع شروق الشمس إلى بجعة ، ولكنها تعود لتتحول مع الغروب إلى راقصة ممشوقة القوام ، يرافقنها في رقصها على ضفاف البحيرة صديقاتها اللواتي كن قد تحولن أيضا إلى بجعات صغيرات ، فيراها الأمير "سيجفريد" أثناء تجواله على ضفاف البحيرة ليقع في حبها ويقتنع أخيرا بفكرة الزواج . ولكن والدته ، التي دأبت على محاولة إقناعه بالفكرة ، كانت قد اختارت له زوجة المستقبل وهي ما زالت تصرعلى اختيارها ، فتقيم الحفلات الصاخبة لتحاول عبثا تجميل اختيارها لولدها .
وتتوالى الأحداث الدرامية ، صراع الخير ضد الشر ، في أجواء من الرومانسية السحرية الخلابة لينتصر الحب في النهاية على الساحرالشرير وتتخلص "أوديت" من أحابيله الشيطانية ، فنشاهد الحفلات تتخللها الرقصات الجماعية والفردية على أنغام الموسيقى .. ذلك التعبير الهاديء الصاخب عن العواطف الإنسانية ، وذلك السحرالحلال ، القادرعلى شفاء النفوس التي هجرتها السعادة .. إلخ

* * *


وهأنا أرى بأم عيني تلك الأجواء السحرية التي تخلقها اللوحات التشكيلية التي تتألف منها خلفيات المشاهد لتتآلف مع موسيقى "تشايكوفسكي" المسموعة ومع حركة الراقصين والراقصات المدروسة ، يبهرني مرآهم وهم وكأنهم لاهون "يتجولون" في الهواء .. تكاد أطراف أصابع أقدامهم أن لا تلمس الأرض إلا بين لحظة وأخرى مع إيقاعات الفالس الجميلة .. وغيرها من الألحان ذات الإيحاءات والدلالات التي لا يخطئها الإدراك البشري .
ففي فن الباليه يتضافر الفن التعبيري (الموسيقى والرقص) مع الفن التشكيلي(الديكور والإضاءة) ، حيث نكتشف أن الأذن يمكن أن ترى .. وأن الأصوات ذات ألوان وربما أشكال ، وسرعان ما تتبدى لنا سيمفونية مرئية تصدح بما يمتع العين والأذن والفكر معا .

أما "الأوبرا"، التي تعتمد إلى جانب هذا كله على نص وكلمات مغناة ، فلم أكن أفهم منها شيئا لأن معالم كلماتها كانت تضيع في اللحن أولأنني ، كما خيل لي في البداية ، لم أكن أتقن اللغة إلى الحد الذي يتيح لي أن أتبين معه معاني تلك الأغنيات .
إلا أنني اكتشفت أن حالي يتشابه مع حال مرافقي أو مرافقتي ، وأنها حالة عامة ، بحيث درجت إدارة الأوبرا على إصدار كتيب ، يحكي قصة الأوبرا ويورد نص الأغاني باللغة المحلية . فلاينطبق ذلك على الأوبرات المقدمة بلغاتها الأصلية مثل الإيطالية ، بل يشمل اللغة الألمانية أيضا ، فيتهافت ، حتى الجمهور الناطق بنفس اللغة ، على شراء الكتيب .
وشيئا فشيئا ॥ يضاف إلى مداركي أن الغناء الأوبرالي ما هو إلا عزف على الآلة البشرية .. "الربّانية" ، التي تسمى الحنجرة ، لتأخذ دورها مع بقية الآلات। فهناك ، مثلا ، آلة بشرية نسائية "سوبرانو" وغيرها "ألتو" .. أو رجالية "تينور" وأخرى "باص" .. وهكذا .
* * *








والشعراء ..


لا أجرؤ على الادعاء بأنني من ذوي الولع بمدرسة من مدارس الشعر دون غيرها . ومع ذلك فهناك من شعراء الحداثة من تعلق ومضات من أشعارهم بذاكرتي .
منهم "أمل دنقل" الذي لا أذكرالشعرأو يُذكرالشعر أمامي إلا وتذكرته .. وتذكرت قصته الطريفة مع الفنان "شادي عبد السلام".

* * *

إثرأحد العروض الأولى لفيلمي الروائي القصير "حكاية" في القاهرة .. تقدم لي"عمرالعلي"، الطالب الفلسطيني في السنة النهائية بالمعهد العالي للسينما، ورئيس فرع إتحاد الفنانين الفلسطينيين في القاهرة في ذلك الوقت، مبدياإعجابه بالفيلم وطالباالعمل معي كمساعد مخرج في التلفزيون .. حيث كنت أعد العدة لإخراج أول تمثيلية سهرة .. "التركه" .
وهكذا بدأت صداقتي مع "عمر" .

في ظهيرة أحد الأيام دعاني إلى بيته (شقة مفروشة في الزمالك ) . وبينما هو مشغول في إعداد القهوة من البن العدني الذي وصله لتوه من أخيه الذي يعمل في دولة خليجية ، دق جرس الباب ، فسارعت بفتحه لأجدني أمام شخص لا أعرفه .. ولكنني أتذكر أنني رأيت وجهه على إحدى جداريات العهد الفرعوني .. أوفوق كتفي تمثال من تماثيل ذلك العهد .
حيّاني الرجل بصمت ، ثم اتجه إلى الصالون .. خلع نعليه .. وتمدد على أحد الكنبات .. وراح في سبات عميق .
أفقت من ذهولي ، بينما أنا أتأمله ، على رائحة القهوة المحوّجة .. وصوت ضحكات "عمر" وهو يحاول - مندهشا- أن يبدد دهشتي :
- .. .. " أمل دنقل" .. .. إنت مش عارفه ؟!

كانت هذه هي بداية تعارفنا .
وما أن حل الصيف .. وبدأت الإجازة السنوية .. حتى طلب مني "عمر" الإقامة في شقته إلى حين عودته من عمان .. بعد أن سدد أجرة شهور الصيف الثلاثة .. كما هي عادته ضمانا لعدم تأجير الشقة لغيره أثناء غيابه .
لم أتردد في تنفيذ رغبة صديقي ، فقد كانت شقة جميله .. مريحة .. تقع بمواجهة المعهد الثقافي الإيطالي الذي يقع بدوره خلف القصر التاريخي الذي غدا إسمه "فندق ماريوت" .. بالزمالك !
ويبدو أن الله كان يريد أن يمتعني بصحبة "إخناتون" الذي لم يقطع عادته في قضاء القيلولة بين حين وآخر على كنبة الصالون .
أكثر ما شدني إليه أنه كان صموتا ..لا يحب الثرثرة . وبالرغم من ملامحه القاسية ، فإن عيناه كانتا تفصحان عما بداخله .. وتجيبان برقة وعذوبة واختصار على أسئلتك قبل أن تنطق بها .
ولم يكن هناك بيننا من حديث سوى كلمات نتبادلهاعن فلسطين .. والثورة الفلسطينية . كلماته القليلة كانت تشي بعمق فهمه للقضية .

ودارت الأيام . وجاء يوم أخذ يحدثني فيه عن فيلم "المومياء" الذي رآه في أحد العروض الخاصة.. ورأى فيه "فيلما سياسيا" من الطرازالأول .
لم يبد إعجابه به فقط ، بل خرج عن صمته وقال فيه قصيدة مدح تمنيت لو يسمعها مخرج الفيلم "شادي عبد السلام" . وهنا خطر لي أن أجمع بينهما ، لا لكي يسمع "شادي" تلك القصيدة فحسب ، بل لعله أيضا يرى في "أمل" ما أراه أنا .
ولم أستطع أن أكتم "رؤيتي" بصلاحية هذا الأخير للقيام بدور البطولة في فيلم "إخناتون" الذي كان "شادي عبد السلام" مازال يبحث عن وجه يصلح له .
وشجعني فرحه الطفولي بفكرة قيامه بالدورأن أنساق في محاولاتي لإقناعه بمقابلة المخرج لدرجة "تظاهرت" معها في أحد المرات بأنني قد تكلمت مع الصديق "شادي" في موضوع ترشيحي له .. وأنه يرحب باستقباله في مكتبه الكائن في شارع 26 يوليو في أي وقت .. بمجرد أن يتصل به تلفونيا .
لم يكن هناك ، بعد ذلك ، الكثير مما نتبادله من الحديث .. سوى سؤالي له .. قبل القيلولة أو بعدها :
_ .. كلمت شادي ؟
وغالبا ما كان يرد علي :
_ لأ مش فاضي !

ثم تباعدت لقاءاتنا .. ولم أتحدث مع "شادي" في هذا الموضوع .
وأنهى صديقي "عُمر" دراسته وسافر إلى الأردن ، ومرت الأيام ، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي جمعتني الصدفة بـ "أمل" .. وما كدت أفتح فمي لأتساءل ، مازحا كعادتي معه ، حتى أجابني بكل فتور :
- .. خلاص بقى !

وندمت أشد الندم عندماعرفت بعد ذلك أن "أمل" قد ذهب لمقابلة "شادي" بالفعل .. واكتشف أمر "المقلب" الغير مقصود .
وعاتبني "شادي" عتابا شديد الرقة .. لأنني تسببت في إحراجهما .
ولم تتح لي ، لأسفي الشديد ، فرصة الإعتذار لأمل دنقل عن دعابتي السمجه إلا في إحدى زياراتي لمصر، بعد سنة أو أكثر من مغادرتي لها إلى لبنان .
في ذلك اليوم .. قابلني بوجه عابس لدرجة ظننت معها أنه ، بالرغم من مرور السنوات ، مازال يحمل لي طغينة (!)
لكنه قال لي بصوت يشوبه إحساس يقترب من الفجيعة :
- يظهر إن اللي مايتسماش ناوي فعلا يعملها .. ويصالح ** ..

ثم أكمل وكأن النكتة قد حبكت نفسها :
- حياخد بـطاري منك .. ويفقعكو إنتو يا الفلسطينيه المقلب اللي هوّه !



______________________________
(**) وفي بيروت .. وصلتنا قصيدته التي جاء فيها :
.. .. .. .. ..
لا تصالح !
.. ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك ،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما ..
هل ترى ..؟
.. .. .. .. ..
لا تصالح على الدم .. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأس !
أكلُّ الرؤوس سواء ؟!
أقًلب الغريب كقلب أخيك ؟!
أعيناهُ عينا أخيك ؟!
وهل تتساوى يدٌ .. سيفُها كان لكْ
بيد سيفها أثكلكْ ؟
.. .. .. .. ..
لا تصالح !
لا تصالح !
"أمل دنقل"
( نوفمبر 1976)

مداخلــــــــــــــــــــــه


هناك من اعترضوا على "أمل دنقل"، واعتبروا قصيدته تحريضا على الحرب وقطعا للطريق أو الأمل في المصالحة أو الحل السلمي . ولكن القليلين كانوا يدركون أن "أمل" إنما كان يرد على قصيدة الشاعر الإسرائيلي "إفراييم تسيدون"** الهستيرية :

لو تخلّى الفدائيون عن أسلحتهم وعقيدتهم
وأرسلوا بطاقات التهنئة لكل بيت يهودي
حتى لو شاركتنا المنظمة في بناء المستوطنات للمهاجرين الجدد
حتى لو أعلنوا أمام الملأ بأن الضفة الغربية هي أرض يهودية
حتى لو قامت "فتح" بنسج قبعات الصوف ليهود إسرائيل
حتى لواستقبل أهالي الضفة جماعات "جوش أمونيم"
بالأغاني والزغاريد
حتى لو التزم "ياسرعرفات" أمام الملأ بأننا الذئب وهم الغنم
وحتى لو اعترفوا بالدولة اليهودية
وقدموا لنا كل أموال التبرعات التي يتلقونها
وحتى لو نقلوا اللاجئين إلى القطب الشمالي
ورفعوا رايات الهزيمة أياما وليالي
وحتى لو تحولت سيوفهم إلى أقلام ومساطر
فلن نجالسهم أبدا
ولن نحــــــاور !

كلمات "أمل" كانت نابعة من الجرح .. ولم تكن مثل كلمات الشاعر اليهودي نابعة من الحقد الغليل .
____________________________________
(**) الترجمة العربية للقصيدة منقولة عن الجزء الثاني من سيرة فدوى طوقان "الرحلة الأصعب" .












"صلـــــــــح الحديبيــــــــه" !


في إجتماع طاريء للمخرجين، كان يفترض أن يكون أحد الإجتماعات الدورية التي كان يعقدها مسئولنا لوضع خطة الدورة الربع سنوية المقبلة في "مراقبة التمثيليات" ، كنا ، بدون استثناء ، نشعر وكأننا في حفل تأبين . كان ذلك في أعقاب حرب أكتوبر المجيدة .
"المراقب العام" يتلوعلينا قائمة الممنوعات ، بينما نحن نطأطيء رؤوسنا محوقلين .
ثم يبدأ بتسجيل ما يقترحه كل مخرج منا من أعمال درامية للمرحلة المقبلة التي لا تتحمل ، حسب التعليمات التي تفرضها أوضاع المرحلة ، أكثر من أعمال "كوميدية" أو "دينية" أو "تاريخية" .. على أن تكون هذه الأعمال خلوا من أي إسقاطات أو تلميحات سياسية .
عندما جاء دوري ، ابتسم لي ابتسامة ذات معنى ، وهز رأسه ويده الممسكة بالقلم .
لم يكن في ذهني أي مشروع . كنت قد عقدت العزم على السفر إلى بيروت.
قلت له قبل أن يسألني :
- مسلسل تاريخي عن "صلح الحديبيه" !

اتسعت إبتسامته دليل الرضى والدهشة معا . وسارع في تدوين رغبتي في أوراقه .
وانفض المجلس .
وبعد ذلك بأيام قابلني وهو يرتجف إنفعالا . قال مستنكرا :
- .. حضرتك بتهزر معايا ؟!
كنت في ذلك اليوم أحمل الكتاب الموجه من مكتب "منظمة التحرير" في القاهرة لتلفزيون ج.م.ع. يطلب إعارتي للعمل في "دائرة الإعلام الموحد" في منظمة التحريرالفلسطينية في بيروت ، للمساهمة في تطوير السينما الفلسطينية .
أعطيته الرسالة . قرأها فانفرجت أساريره .. وقام بتذيلها بتوقيع الموافقة المطلوب .

* * *





رأيت مصر في المنام ..
لشدما تغيرت ..
.. .. .. .. .. .. ..
هأنا أرحل عنك ..
عائدا يوما إليك ..
حينما يصب نهر النيل في برّ الشام .

"أحمد عبد المعطي حجازي"

* * *

أيامي الأخيرة في القاهرة ..


كان صدور قرار التفرغ ، وموافقة تلفزيون ج.م.ع. على "إعارتي" لمنظمة التحرير الفلسطينية ، ومن ثم إمكانية الإنتقال للعمل في بيروت هو طوق النجاة من الغرق في دوامات بحر الكآبة والحزن واليأس والإحباط .

ومن سخريات القدر، أنني ، عندما ذهبت لشركة الطيران لاستلام تذكرة السفر إلى بيروت ، وجدت تذكرة بإسمي .. وأخرى بإسم الزوجة "هـ" . فقد خيل ، كما يبدو، لمسئول "الإعلام الموحد" بمنظمة التحرير في بيروت ، "ماجد أبو شرار" ، زميل الدراسة الثانوية في غزة ، أن زواجي من "هـ" قد تم ، أو هو في طريقه إلى ذلك .

فوجيء صديقي "ماجد" ، والذي كان يعلم بمشروع إرتباطي ، بقراري بالسفر إلى بيروت بمفردي ونصحني بالتمهل . كما نصحني ، عند لقائي به في القاهرة ، بقبول العرض الذي كنت قد تلقيته مؤخرا لإخراج مسلسل تليفزيوني لشركة إنتاج يمتلكها مجموعة من الشبان الفلسطينيين في عمان ، بحيث أتواجد في بيروت بعد الإنتهاء من المسلسل مع بداية السنة الجديدة . وذلك ضمانا لوجود ميزانية لإنتاج الأفلام في "الإعلام الموحد" من ناحية ، ومن ناحية أخرى من أجل الإستفادة من قيمة أجري عن إخراج المسلسل . وهدف آخر كان "ماجد" يقصده وهو توفير فرصة للتفكير قبل إنهاء علاقتي بـِ "هـ" .

كانت هناك عدة شهور من الإجازات السنوية المتراكمة التي نمى إلى علمي إمكانية الإستفادة منها بحيث أقضي منها في عمان شهورا ثلاثة أو أربعة في النصف الثاني من عام 74 ، ومن ثم أعود إلى القاهرة لإتمام إجراءات إعارتي من التلفزيون العربي في القاهرة إلى منظمة التحرير إبتداء من العام الجديد ، عام 1975، على أن أستعد للسفر إلى بيروت ، حسب الإتفاق ، في أواخر عام 74 .

كانت الأوقات الكئيبة التي ظهرت فيها إرهاصات ونوايا إتفاقية السلام المنفرد مع إسرائيل ، بالإضافة إلى تلك القيود التي فرضت على مخرجي الدراما في التلفزيون من حظرعلى أي موضوع يتناول ويعالج تلك الظروف التي أملتها الأوضاع المستجدة ، وقصرالإنتاج على التمثيليات الكوميدية والمسلسلات الدينية والتاريخية التي يشترط أن لا يُشتم فيها رائحة الإسقاطات السياسية ، كل ذلك كان من الأسباب التي عجلت في قبولي للسفرإلى عمان .. بدون أن أقرأ حتى سيناريو المسلسل ، أو أن أتفق على المسائل المالية .
إكتفيت فقط بقول المنتج ، "سهيل إلياس" ، بأن الموضوع يدورحول .. الأرض .. والتمسك بها .

* * *




عمـّـــــــان .. أول مرة !


هناك فوجئت بـ "سيناريو" متواضع لم يحرك فيّ رغبتي ولا أثار شهيتي للعمل . فقررت العودة وقضاء اجازاتي المتراكمة في الإسكندرية ، مع شقيقاتي ، خصوصا وأنني على سفر إلى بيروت .. إلى ما شاء الله .
لكن المنتج أصرعلى بقائي في عمان ، وأعطاني مطلق الصلاحية في أن أعيد كتابة السيناريو بالطريقة التي أراها وترضيني، وبالشروط التي تناسبني .
وكانت أولى بوادرالنوايا الحسنة هي إنتقالي من الفندق إلى مسكن يقع في واحد من أرقى وأجمل أحياءعمان ، الشميساني ، وتتوفر فيه كل أسباب الراحة، ناهيك عن كرم الضيافة الذي غمرني وألجمني . هذا إلى جانب الأجواءالفلسطينية المقدسية، التي كانت تعج بهاعمان ، والتي كنت أتوق إليها والتي أشعرتني بالسعادة والإحساس بأنني أقترب من بلدي، القدس ، وجعلتني أعود إلى الحديث بلهجتي المقدسية بعد أن خيل إليّ أنني كدت أن أنساها في غمرة عملي في الأوساط القاهرية وفي التلفزيون المصري .
وكيف أنسى ترحيب الأوساط الثقافية ، ومشاعرالود التي أحاطتني وطوقتني وأعادت إليّ توازني الذي كدت أن أفقده في أيامي الأخيرة في القاهرة .

بعد إكتمال إعادة كتابة الحلقة الأولى من المسلسل ابتدأ السيناريو ينحو إلى إتجاهات جديدة ويتطلب وجود شخصيات جديدة ، أوأن تتخذ شخصيات معينة فيه ملامح أخرى مغايرة .. أو أكثر وضوحا .
وتوالت بعدها الحلقات التي كان المنتج ، وشركائه والمقربين منه ، يستقبلونها بلهفة تنم عن القناعة والرضى .
أذكرأنني كنت أنفعل ، إلى حد البكاء، أثناء صياغة أحد المشاهد التي يكتشف فيها أهل قرية "راس العين" أن السرفي طغيان "المختار" يكمن في ضعف أهل القرية ذاتهم .. لا في قوته هو . أوعندما كنت أكتب على لسان بعضهم ما كان يجول في خاطري من تمردعلى الأوضاع التي آلت إليه "تلك القرية" المحاصرة بالأعداء .. والمخترقة بالأدعياء .

وتناقلت الأوساط الفنية والثقافية أخبار سيناريو مسلسل "راس العين" .. أول مسلسل عربي سوف يجري تصويره بالألوان !
وتوالى تعريفي بالممثلين والممثلات والفنيين في تلفزيون عمان، وغالبيتهم العظمى كانوا من الفلسطينيين .
وبدأت إختياراتي على مهل .

في أحد الأيام ، جاءني المنتج "سهيل إلياس" وعلى وجهه أمارات الفرح المشوب بالدهشة ، وفي يده جريدة الأهرام الصادرة في نفس اليوم ، 25يوليه 74 19 ، لأقرأ في الصفحة الأخيرة ، صفحة كمال الملاخ.."بلا عنوان" ، خبرا مفصلا عن فوز فيلم "الظلال في الجانب الآخر" بجائزة مهرجان "كارلوفي فاري" في تشيكوسلوفاكيا.**
لم يكن فوز الفيلم هو سبب المفاجأة ، ولكنه كان أيضا لعلمي ويقيني بأن الفيلم لم يفرج عنه رقابيا بعد .
فكيف بتأتى أن يشارك الفيلم في مهرجان دولي وهو ممنوع من العرض في بلده ؟!
___________________________
** مهرجان "كارلوفي فاري" التاسع عشر عام 74 ، باشتراك 30 دوله و 90 فيلم طويل


ثم أعقب ذلك عرض التلفزيون الأردني لآخر تمثيلية سهرة كنت قد أنجزتها في القاهرة قبيل حضوري إلى عمان .. "ضمير إمرأة" .
وانهالت علي بعد ذلك أنواع التهاني والمباركات والعروض للإتفاق على كتابة مسلسلات أخرى ، الشيء الذي كنت أرفض بشدة مجرد الحديث عنه ، ما دمت لم أنته بعد من العمل الذي أنا بصدده .
وعندما شارف موعد بدء التصويرالذي يحتم حضورالممثلة "منى واصف" مع الممثل "عبدالرحمن آل رشي" من سوريا للبدء في إجراء البروفات، لاحت في الأفق إحدى بوادر سلوك المنتجين المراوغين .
فوجئت باعتذارالسيدة "منى" عن عدم إمكانية حضورها ، ( وهي التي أكدت لي فيما بعد، عندما قابلتها في مهرجان موسكو السينمائي، أنها لم تتلق أي عرض من ذلك المنتج )، ووجدتني أمام أمر واقع لا أستطيع إزاءه إلا القبول بالممثلة البديلة المتاحة ، والتي قامت بدورها بشكل جيد والحمد لله .
وتوالت التراجعات من طرفهم .. والتنازلات المحدودة المشروطة من طرفي .. ومن ثم التوقعات الحذرة والوساوس .

وفي أحد الأيام فوجئنا بتوقف إحدى الكاميرات الثلاث عن العمل ، ولم تُجد محاولات الفنيين اليائسة في إصلاحها . هذا مع العلم بأن فريقا فنيا قد قضى مدة لا بأس بها، كما قيل لي، في بريطانيا للتدريب على صيانة أجهزتهم الحديثة قبل تركيبها في التليفزيون الأردني .. الملون .

هنا كان لا بد لي من إنقاذ الموقف بإعادة النظر في السيناريو، وإجراء التعديلات الممكنة في الـ"ديكوباج" بما يتلاءم مع الإكتفاء بالكاميرتين الباقيتين .
لا أنكرأنني كنت أشعر بالمتعة أثناء قيامي بعملي بالرغم من كل المنغصات التي واجهتني نتيجة لأحابيل المنتج ومراوغاته . وكان مصدر متعتي هي تلك الشخصيات التي قمت بتطوير أدوارها وجعلتها تنطق ببعض ما كان يعتمل في داخلي ، أنا المنفي المبعد عن بلده ، من أحاسيس وما كنت أومن به من أفكار .
ثم .. ما لبثت الكاميرا الثانية أن لحقت بأختها ، فلم يبق أمامنا سوى إنتظاروصول الخبيرالبريطاني لإصلاح الأعطال . فمن المستحيل إكمال العمل في المسلسل بكاميرا واحدة وذلك لعدم توفر إمكانيات "المونتاج الإلكتروني" ، في ذلك الوقت .
إلا أنني تمكنت من إتمام تصوير بقية اللقطات للمشاهد التي يشارك فيها الممثل السوري القدير"عبدالرحمن آل رشي"، ليتمكن من العودة إلى بلده وأعماله .
ومرت أيام من الركود كان إحساسي فيها بفداحة التنازلات التي قدمتها يتعاظم ، وخوفي من الظروف التي قد تضطرني لتقديم تنازلات أخرى سوف يكون لها أثرها على مستوى العمل ينمو ويتزايد . وقد ساهم في ذلك ظهور بوادر نوايا "غير مريحة" بالنسبة للأتعاب ، فلم يكن هناك حتى ذلك الوقت أي تعاقد يحكم هذا الجانب من العلاقة بيني وبين جهة الإنتاج .
ومع إزدياد شكوكي بالنوايا الغيرعادلة ، بالإضافة إلى التنازلات الفنية التي كنت أتوجس من المزيد منها ، واقتراب موعد عيد الأضحى ، وجدت أن الوقت قد حان للهروب من مأزقي مقابل التضحية ببقية أتعابي وتركها رهينة لحين عودتي التي لن تتم .
كنت أعرف أنني لن أعود لإتمام العمل في المسلسل . وكنت في نفس الوقت أشفق على العمل الذي أحببته وأنا أكتب تفاصيله .. ثم أحببته أكثر بينما أنا أقوم بتنفيذ مشاهد جميلة كنت راضيا عنها كل الرضى . ولذلك ، تركت "الديكوباج" التفصيلي للعمل بين يدي المنتج أملا في أن يستفيد منه المخرج الذي سيتولى العمل من بعدي .

عندما صادف أن عدت إلى زيارة عمان بعد ذلك بحوالي عامين ، قيل لي ، أنه أثناء عرض المسلسل في التلفزيون ، وبعد أن عهدوا إلى مخرج آخر لإتمامه ، كانت تعليقات المشاهدين تتفق و تتلخص في التساؤل عن سر الكبوات في إيقاع بعض المشاهد .. وخلوها من ذلك التألق الذي تميزت به المشاهد الأخرى التي لا أنساها في مسلسل "راس العين" (!)
وهل تنسى دور تلك الصبية الـ "فيديت" الذي أسندته بدون تردد إلى فتاة كان يبدو لي أنها كانت من قريبات المنتج ، كانت تتردد على مكتبه وتتطلع حولها في خفرالعذارى المشوب بالإعجاب و الإنبهار، وبادلتها عدسة الكاميرا الإعجاب وأحبتها من "أول لقطة" .. ؟
كنتَ تتأمل وجهها الجميل الناطق بمعاني البراءة من خلال الكاميرا فتزداد قناعتك بحسن اختيارك . وكنت تتعمد أن تدعوها لترى ما قامت بتجسيده بعد تصوير بعض مشاهدها لترى قسماتها تنضح بشرا وعزما على مواصلة الإلتزام بتعليماتك التي كانت ترهقها في بعض الأحيان لدرجة المجاهرة بنواياها بترك العمل واعتبارتجربتها الأولى هي الأخيرة أيضا .. كان اسم الصبية "جولييت" .



"جولييت" .. ثاني مرة

كانت عشرون سنة قد مرت عندما كنت ، ومعي ممثلة المسرح العكاوية ، الصديقة "ساميه بكري"، أتفقد ضيوف مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة ، عام 94 ، باحثا عن رئيس الوفد الأردني المشارك ، لفتت انتباهي سيدة أربعينية كانت تختلس نحوي نظرات متفحصة بإلحاح داعب غروري وأثار فضولي . ولم ألبث أن رأيت صورة وجهها تطل من أحد الملصقات التي تفيد بأنها بطلة لمسرحية "مونودراما" هي المشارََكة الأردنية في ذلك المهرجان .. مما أكد لي أنني عرفتها في يوم ما .
لم يطل بحثي عن صديقي "حاتم السيد" ، مندوب قطاع المسرح في وزارة الثقافة الأردنية ، ورئيس الوفد الاردني ، الذي سارع بالقبض على ذراع شخص طويل القامة ، كان يقف خلفه بجانب تلك السيدة الفضولية ذات النظرات المتفحصة ، ويشده لمواجهتي فإذا بي أرى "جميل عواد" الذي لم أره منذ عشرين عام مضت .
كان "جميل" ، مخرج المسرحية الأردنية المشاركة ، أحد المساعدين الذين تعاونوا معي في مسلسل "راس العين". وكان اللقاء حارا لدرجة لفتت أنظار "السيدة" التي سرعان ما انضمت إلينا بينما تتردد على وجهها إبتسامة ودودة . وسرعان ايضا ما استدرك "جميل" الموقف ليقدم لي زوجته مضيفا :
- .. شو حكايتك .. إنت نسيت "جولييت" ؟!

وتعانقت أشواقنا والحنين إلى أيام لم تخل من بشر وأحلام كبار، و بادرتني بقولها مازحة :
- روح الله يسامحك ياشيخ !

وأكملت مشيرة لي وهي توجه كلامها للممثلة المسرحية "سامية بكري" بلهجة شاكية :
- .. هوالسبب .. هواللي ورّطني وأعطاني أول دور في حياتي ، وجاب لي المشاكل والحكي .. الناس في الشارع صاروا يشاوروا عليّ ويقولوا ..
" البنت اللي .. .. "

وعقب "جميل" مازحا بسرعة :
- لما كترالحكي .. شفقت عليها وتجوزتها !

ثم لم تلبث أن غيرت لهجتها وأكدت لمن حولها ، بنظراتها التي تشي بالسعادة والعرفان ، أنها غير نادمة .

* * *





"جولييت" .. مرة أخرى **



عشرون عاما تفصل بين اليوم الذي اخترتُ فيه تلك الفتاة ، لتقف لأول مرة أمام الكاميرا ، لتقوم بدور بذلت قسطا وافرا من العناية في رسمه ، وبين اليوم الذي أراها فيه ممثلة قديرة تشارك بنجاح ملفت في مهرجان دولي للمسرح التجريبي .
ثم تمرعشرة أعوام أخرى لأراها وهي تطل شامخة من شاشة إحدى القنوات الفضائية في دور تنافس فيه ممثلة المسرح النمساوية القديرة ، ذات الشهرة العالمية ، "دوروثيا نيف"، التي قامت بدور"الأم شَجاعة " في مسرحية "بيرتولد بريخت" الخالدة (على مسرح الشعب ، في فيينا ، عام 1963) .
ذلك هو دور "إم صالح" في المسلسل العربي البديع ، "التغريبة الفلسطينية"، الذي يجسد معاناة عائلة فلسطينية خلال نصف قرن من النضال حفاظا على الحق ، والذي أبدعت فيه الفنانة "جولييت عوّاد" ، وكذلك زوجها الفنان "جميل عوّاد" ، إلى جانب المجموعة المتميزة من الممثلين الفلسطينيين ، "المقيمين" في الأردن أوسوريا ، إلى جانب تلك الباقة من الممثلين والممثلات العرب .

المقام لا يتسع لتقييم المسلسل وإعطائه حقه من النقد . ولكنني أردت بهذه الإضافة أن أنوّه عن الجهد الرائع لكل من شارك فيه .. نصًا وإخراجًا وأداءً وتنفيذًا .
أقول باختصار ..
أي فرحة تلك التي تغمرني وقد امتد بي العمر لأشهد ذلك الميلاد ..
ولادة "الدراما التلفزيونية الفلسطينية" !
لقد أنجز لنا الزميل المخرج الشاب "حاتم علي" شيئا مما كنت أنا شخصيا أحلم بإنجازه ، فله مني أصدق الشكر والامتنان ।

* * *

_______________________________________
(**) القاهرة .. إضافة في ديسمبر 2004




"لديّ حلم" **



كانت إقامتي في عمان لا تخلو من لحظات مخطوفة ، أنسى فيها هموم العمل ومتاعبه ، حينما كنت ألبي دعوات بعض الأصدقاء المقدسيين القدامى أو الجدد . ولم تكن الدعوات إلى المطاعم أو الفنادق تستهويني بقدر ما كنت أهيم شوقا إلى"العزايم" في البيوت الفلسطينية ، والمقدسية بالذات ، حيث تعبق رائحة "الزعتر" و "الميرمية" ، فتأخذني إلى رحاب الطفولة وتتجول بي في حارات الذاكرة .
ففي المنافي غالبا ما يجعل الفلسطيني من بيته وطنا افتراضيا ، فيقوم بإعطائه طابعه المميز عن طريق نثر التحف التذكارية ذات الطابع الوطني وقطع المشغولات اليدوية التراثية في أركان البيت وعلى حيطانه.
وأتلهف أنا لسماع أحدهم وهو يستدعي ذكرياته التي تعود إلى سنوات ما زالت قريبة طازجة بالنسبة لذكرياتي الغائرة في السنين والطاعنة في القدم . فنسافر سويا في الزمن .
نتبادل معلوماتنا عن تضاريس "البلدة القديمة" وجغرافيتها وتاريخها .. ونتجول في معالمها . يقودونني تارة .. وأقودهم تارة أخرى للعبور من تحت أحد القناطر في إحدى الحارات .
وتأخذنا معها الذكريات . و يرحل بي حنيني إلى شطآن الوطن بعد أن كدت أن أغرق في بحور الغربة .
وأتوق إلى حلم طفولتي .. ذلك الحلم المتكرر .. حيث كنت أراني أفرد ذراعيّ وأطلقهما للريح .. فأطير .. وأطير ..

في القدس .. في المدرسة العمرية الابتدائية التي كانت قبل الاحتلال الصهيوني تقع على أحد المرتفعات خارج أسوارالمدينة القديمة .. أشار مدرس الجغرافيا من نافذة الصف إلى الجبال العالية التي تبدو في الأفق الشرقي .. غائمة تكاد تنمحي ولكنها موجودة .. قال أنها "جبال مؤاب" التي تقع في الأردن ، وراء البحرالميت .

ساءلت نفسي في عمان : ترى لو وقفت على أحد القمم في جبال مؤاب ، شرقي البحر الميت ، فهل سوف أطل ، من فوقه غربا ، على القدس .. على مدرستي .. على طفولتي ؟
بل إنني كثيرا ما كنت أنوي القيام بتلك "التجربة" في أحد أيام إقامتي في عمان . لكنني لم أجد الوقت المناسب .. ولا الرفيق المناسب لها .
لم يطفيء لهيب أشواقي سوى ذلك الحلم المتكرر ، الذي كنت فيه أفرد ذراعي وأطلقهما للريح .. وأطير .. وأطير إليها .
___________________________________________
(**) عنوان خطبة "مارتن لوثر كينج" الشهيرة التي ألقاها أمام آلاف المواطنين السود بجوار تمثال "أبراهام لنكولن" عام 1963 ، ولم تلبث يد التعصب في أميريكا أن اغتالت هذا الحلم باغتيال القس في عام 68 .


* * *

كدتَ ، في بعض الأحيان ، أن تنساق وراء ما زينه لك البعض بالاستقرار في "عمّان" ، خصوصا وأن فرص العمل ، كمخرج تلفزيوني ، كانت تنهال عليك بإلحاح .. وبسخاء .
كنتَ ، أحيانا ، تحدث نفسك متسائلا في شيء من التواطؤ مع أصحاب العروض المغرية :
ما دمت ترى في"بيروت" محطة أخيرة لترحالك بين المنافي ، أفليست "عمّان" هي الأقرب جغرافيا إلى "القدس" من "بيروت" .. كمحطة أخيرة ؟
لكنك ، كلما أمعنت في التفكير والحسبان ، كنت ترى في "عمّان" مكانا آخر للانتظار .. بينما كانت "بيروت" في نظرك مكان للعمل والانطلاق .
وشتان بين البلد التي لفظت "المقاومة الفلسطينية" في أيلول الأسود .. وبين "بيروت" التي احتضنتها سنوات طوال .
ولم يختلف إحساسك .. بعد ذلك .. عندما ذهبت إلى لبنان .. وأخذت تطل من قمم جباله الجنوبية على شمال فلسطين .

كم عاودك ذلك الحلم المتكرر الذي كنت فيه تفرد ذراعيك وتطلقهما للريح فتطير وتطير .. إليها !
فكما العاشق الذي يرى كل نساء العالم في محبوبته ..
كنتَ ، وتظل ، تختزل العالم كله في مكان واحد هو: القدس .



* * *














القاهرة .. في 27/2/1997

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق