الأحد، 16 مايو 2010

"صدمة الهبــــــــــــوط .."

لن يفوتني أن أنوه عن الترحيب الذي لاقيته من المسئولين في تلفزيون جمهورية مصرالعربية .
وكذلك ترحيب واحتضان مجموعة الفنانين والصحافيين والنقاد الذين عرفني بهم ، أوعرفهم بي ، صديقي الفنان "سامي رافع" لدى وصولنا سويا إلى مصر.
إليهم جميعا أهدي محبتي وتقديري وعرفاني .

كثيرا ما كان "سامي" يحدثني عن أصدقائه من الفنانين في القاهرة ، حتى ليخيل لي أنني بت أعرفهم واحدا واحدا. خصوصا الفنان التشكيلي "ناجي شاكر" ، والمخرج السينمائي اللامع "توفيق صالح" .. وفيلمه الروائي الأول "درب المهابيل" الذي وضعه ، منذ بدايته ، في مصاف المخرجين الكبار .

في أول لقاء لي في القاهرة مع صديقي "سامي" ، بعد افتراقنا في ميناء الإسكندرية ، إثر وصولنا إليه عائدين سويا من "فيينا" ، قال لي أننا في طريقنا لزيارة صديق له كان قد حدثنيعنه كثيرا. كما عرفت بعد ذلك أن الصديق "ناجي شاكر" الذي كان في انتظارنا قد بات يعرف عني ، وعن فيلمي "حكايه" ، الكثير أيضا .

كان "ناجي" قد انتهى لتوه من تنفيذ تصميماته لعرائس وديكورات الأوبريت الشهيره .. "الليله الكبيره"، التي طبقت شهرتها الآفاق ، من أشعار "صلاح جاهين" .. وألحان "سيد مكاوي" .
أعتقد أنني بذلك قد قدمت "ناجي شاكر" لمن فاته أن يعرفه .
وكان "ناجي" هو من قدمني إلى الكثيرين من أصدقائه وزملائه من الفنانين التشكيليين والصحافيين والأدباء والشعراء .
من خلاله عرفت شقيقه الذي يكاد يتفوق عليه في الرقة والشفافية ، رسام الكاريكاتير، "إيهاب شاكر" ، وصديقهما الساخر والذي لا تحتاج لأكثر من ثوان ، من حديثه ، حتى تدرك أنه رسام الكاريكاتير "بهجت عثمان" ، والفنان التشكيلي المتميز "حلمي التوني" ، والفنان التشكيلي السينمائي ، الذي لا يقل عنه تميزا ، "شادي عبد السلام" ، والفنان "عدلي رزق الله" ، والفنان "محيي اللباد" ، والفنان "جورج البهجوري" ، والشاعر " أحمد عبد المعطي حجازي" ، و "سيد حجاب" ، و "عبد الرحيم منصور" و "عبد الرحمن الأبنودي" .. والكاتب "سيد خميس" و "يحيى الطاهرعبد الله" .. و"غالب هلسا".. والناقد "رؤوف توفيق" .. وغيرهم من الكتاب والشعراء والفنانين الذين كنت أكتفي بأن أقرأ لهم ، أو عنهم ، في "روزاليوسف" و " صباح الخير" .
ومن خلال هذه المجموعة عرفت طريقي إلى دار "الهلال" ودار "روزاليوسف" . وهناك قابلت الفنان "هبة عنايت" الذي فوجيء بي بعد مرور زمن طويل على فراقنا في "جدة" عام 1956 ، حيث كان يعمل في إحدى المؤسسات الصحفية الناشئة هناك ، بعد أن انتهت مدة خدمة الفنان "صلاح جاهين" في نفس المؤسسة . وكان كلاهما يرتبط بصداقة قديمة حميمة مع شقيقي "عابد" .
وعرفني "هبة" بشقيقه الكاتب "راجي عنايت" * الذي قدمني بدوره إلى الكاتب والناقد "رجاء النقاش" في دارالهلال حيث تم تعارفي مع الصديق الضاحك دوما "محمد صبري" ، رئيس قسم التصوير في الدار، والعديد من العاملين في الصحافة والنقد الأدبي والفني .
__________________________________________
(*) وُلد "راجي عنايت" ، كما عرفت منه ، في بلدة "ملَبِّسْ" الفلسطينية ، قبل أن تتحول إلى مستعمرة إسرائيلية إسمها "بتاح تكفا" .


أما "صلاح جاهين" .. فقد كان الفضل في تعرفي إليه يرجع إلى أخي "عابد" .
قال وهو يقدم أخي - صديق أيام العزوبية- إلى زوجته :
- .. "عابد" .. أول فلسطيني حبيته .. و ..
ثم أكمل ، وهو يقدم زوجته إلينا :
-.."مُنى" .. آخر فلسطينيه حبيتها ..

* * *

وفي أحد الأمسيات ، وكان ذلك في أوائل شهر يونيه 1968 ، في منزل "ناجي شاكر" فاجأني الجمع بأنه قد تقررعرض فيلمي"حكايه" ، مشروع تخرجي في أكاديمية الفنون بفيينا ، في النصف الثاني من ذلك الشهر ، في المركز الثقافي التشيكي .
قالوا لي أنهم قد قاموا بكل الإستعدادات ، وما علي إلا أن أحضر الفيلم الذي كان لصديقي "سامي" الفضل الأول في وجود نسخة منه معي في القاهرة .

في الموعد المحدد فوجئت بحشد من الفنانين والكتاب والشعراء والصحافيين ، الذين كانوا في ذلك الوقت يعتبرون من رموز الثقافة العربية في مصر.
شعرت أنني إزاء امتحان عسير . أكون بعده .. أو لا أكون !

* * *


كان فيلم "حكاية" أحد أهم مسوغات تعيينك مخرجا في قسم الدراما في التلفزيون . فلقد شاهده العديد من المسئولين هناك ، كما تم عرضه كاملا في أحد البرامج الثقافية . بل إنه ، مع الإمتيازات الأخرى التي كنتَ قد نلتها ، كان سببا في إعفاءك من أربع سنوات كان يفترض أن تقضيها كمساعد للإخراج ، أسوة بما هو متبع مع خريجي معهد السينما في القاهرة .

ولم يكن عرض الفيلم في صالة المركز الثقافي التشيكي هو أول العروض ، ولا آخرها . لكنه كان أهمها بالنسبة لك ، من حيث نوعية المشاهدين وأهميتهم وتأثيرهم .
كان معظم الحاضرين من الفنانين والمثقفين والنقاد قد سمعوا عن الفيلم ، وعن ذلك المخرج الفلسطيني الوافد حديثا ، والذي كثر الحديث عنه ، مما حفزهم للحضور .. متحفزين .
كنت تشعر أنك أمام لجنة تحكيم جديدة ، ذات مستوى عال في تذوقها للفنون ، تنتظر منها أن تنطق بتقييم لعملك .

وكان أن صفق الجمهور في نهاية عرض الفيلم . وذلك حتى تلك اللحظة هو الشيء العادي .
أما أن يطالب الجميع بإعادة عرضه .. .. .. ؟!
فذلك ما أسعدك إلى درجة الإرباك .. وما سجله الكاتب "راجي عنايت" في مقاله الإفتتاحي بمجلة "الكواكب" في عددها الصادر في 25 يونيه68.

لم يكن بمحض الصدفة ظهور مقال "راجي عنايت" في الصفحة الأولى من مجلة "الكواكب" ، بعنوان "صدمة الهبوط .." ** ، مع ظهور أولى صفحات "مجلة الغاضبين" في نفس العدد . فلقد اقتنع رئيس التحرير "رجاء النقاش" بجدوى دعم "جماعة السينما الجديدة" ،
التي ساهمَت في تأسيسك كما ساهمْتَ في تأسيسها ، وأفرد لكم صفحتين أسبوعيا لتقوموا بتحريرهما كما شئتم .
_________________________________
(**) أذكر أنه جاء في مقال الصديق"راجي عنايت" تساؤل يحمل شيئا من الإستنكار لتكرار ظاهرة تغيير المبعوثين للخارج لنوع دراساتهم । وإن لم تسنح الفرصة لي بأن أشرح له أو لغيره مفصلا السبب أو الدافع الذي جعلني أقوم بهذا التغيير، فلعله ، أو غيره من المتسائلين ، أن يجد في مذكراتي هذه إجابة على هذا التساؤل أو ما يبرر ذلك التحول.


وكان من أهم نتائج العرض أنك تعرفت عن قرب بالمخرج "توفيق صالح" الذي حاول بلباقة شديدة أن يحصّنك من "صدمة الهبوط" إلى أرض الواقع ، والذي أدلى في أحد لقاءاته الصحفية بكلمات كانت وستظل مصدرا لسعادتك واعتزازك .
اختتم الحديث بقوله بالحرف الواحد :
- ".. أعتقد أن غالب شعث سيكون من أوائل مخرجينا خلال أعوام قليلة .. إنه يقطر فنا و موهبة وحسا سينمائيا سليما ..! " **

_____________________________________________
(**) صديقي المهزار ، المونتير المعروف "أحمد متولي" ، دأب على تقليد أستاذنا توفيق صالح وهو يدلي برأيه هذا ، بدون أن يغفل عن لثغتة المميزة التي تقلب "الراء" إلى "غين" ، حينما كان يستعمل الكلمة الدارجة "يَخُرّ" بدلا من "يقطر" :
- .. غالب دا بيـ "خُغْ" فن !


* * *




وزارة الثقافة ..


لدى وصولي إلى الإسكندرية ، وجدت بانتظاري رسالة من مدير المهرجان الأميريكي ، الذي جرى بيني وبينه ما يشبه الإتفاق على مشاركتي بفيلم "حكايه" ، وفي طي الرسالة نسخة من كتاب موجه من إدارة المهرجان إلى وزيرالثقافة ، د. ثروت عكاشه ، يطلب فيها تيسير ودعم هذه المشاركة (!)

قابلت الوزير الفنان ، فرحب بي في ود وأبدى سعادته واستجابته ، كما قام بتكليف مدير مكتبه بتدبير عرض خاص له لمشاهدة الفيلم . وعندما سألني عن مواصفات الفيلم تبين أن أجهزة العرض التي لديهم ينقصها إمكانية عرض الأفلام ذات شريط الصوت المغناطيسي . فطلب مني الوزير أن أتدبر الأمر .
ذهبت إلى عميد معهد السينما في حينها ، الأستاذ "أحمد الحضري" ، فأبدى هو الآخر ترحيبه بإعارة جهاز العرض المناسب لمكتب الوزير، شريطة أن يرسل مكتب الوزير من يقوم باستعارة واستلام جهاز العرض المطلوب ونقله إلى مقرالوزارة .
راجعت الأستاذ الحضري بهذا الشأن فكان رده دائما أنهم في انتظار من يقوم باستلام الجهاز .
راجعت مدير مكتب الوزير أكثر من مرة ، فكان رده أنهم سوف يتدبرون أمر نقل الجهاز في أقرب فرصة ممكنة .
ويبدو أن تلك الفرصة لم تكن من الممكنات .
وأذكر أنني انشغلت بالإعداد لأول تمثيلية سهرة لي في التلفزيون .. "التركة" ، عن مسرحية قصيرة لنجيب محفوظ .
وخلال تلك الفترة جرى تعرفي إلى مذيعة التلفزيون المتألقة " سلوى حجازي".. وكان أن قدمتني في برنامجها المتميز "شريط تسجيل" .. كأحسن ما يكون التقديم . وحيث تطرق الحديث عن مهرجان الإسكندرية السينمائي الأول .. ومشاركتي فيه .

* * *


مهرجان الإسكندرية السينمائي


عندما أقيم مهرجان سينما الشباب الأول في الإسكندرية ، في أغسطس من عام 1969 كما أذكر، برزت مشكلة جنسية أوجهة إنتاج فيلم "حكايه".. مرة أخرى . واتضح فيما بعد ، أن المشكلة لم تكن في جنسية الفيلم . واتضح الأمر بشكل أكثر"وضوحا"، عندما أصر مديرالمهرجان، الأستاذ "أحمدالحضري"، على عرض الفيلم "خارج نطاق التحكيم"، لإتاحة الفرصة أمام أفلام أخرى لنيل الجائزة ، حيث أنه كان يرى أن فيلم "حكايه" كان ، من ناحية المستوى الفني ، خارج المنافسه (!)
- .. وليس من العدل أن يتنافس على الجائزة مع بقية الأفلام ، خصوصا وأنه في الأصل - بيني وبينك - من انتاج نمساوي يتميز بالإمكانات المتاحة له ، والتي لم تتوفرللأفلام الأخرى المشاركه (!)

هذا ماقاله لي الأستاذ "أحمدالحضري"، مديرالمهرجان . وختم أقواله بوعد قاطع بمنح الفيلم جائزة تقديرية خاصه .
عجبت لحجة مديرالمهرجان، عميدالمعهدالعالي للسينما ، والتي شجبها الكثير من العارفين . فلم يكن هناك في الحقيقة ما يستدعي إفتراض وجود تلك "الإمكانات". فلقد شاركني في تنفيذ الفيلم ، كما تقول عناوينه ، خمسة أشخاص فقط . الزميل المصورالذي كنت أقوم أنا بمساعدته ، والزميلة مساعدة الإخراج أو الـ "سكريبت" التي كانت تقوم بتسجيل الصوت أيضا ، والتي جرى تصوير المشاهد الداخلية في بيتها، وبطلةالفيلم ، وهي صديقة لم يكن لها أي علاقة أوخبرة سابقة **، وبطله الطالب في معهدالفنون المسرحية ، ومن بعدهم الزميلة "هانيلوري" التي قامت بـ "مونتاج" الفيلم .. مقاس 16 مم / أبيض وأسود . أي أنه ينطبق على الفريق المذكور القول بأنهم قاموا بـ "غزل" الفيلم بـ "رجل حمار" .
وأخيرا ، كما قلت ، تنازلت عن عرض الفيلم في نطاق التحكيم .
إلا أنه يبدو أن الجائزة التقديرية الموعودة قد ضلت طريقها إلي .
____________________________________________
(**) جرت العادة أن يستعين طلبة قسم السينما في الأكاديمية ، لأداء الأدوارفي أفلامهم ، بطلبة معهد التمثيل . وبالفعل تم اختيار البطل والبطلة كما هو متبع . وتحددت مدة التصوير بخمسة أيام .
وتمت استعارة معدات التصوير والإضاءة وتسجيل الصوت وما إلى ذلك لتلك الأيام الخمسة . كما تم تنفيذ خطة العمل لليوم الأول على أكمل وجه .
وفي اليوم الثاني فوجئنا بعدم تواجد البطلة لارتباطها بعمل آخر خارج فيينا !!!
ولم يكن هناك من مخرج سوى الإستعانة بتلك الصديقة ، التي اضطرت لطلب إجازة طارئة من عملها ، بعدإلحاح شديد من الفريق ، واستدرار شفقتها على "المخرج" اللي مستقبله بين إيديها وتحت رحمتها ، للقيام بدور البطولة دون أي دراية سابقة لها بأمور التمثيل أو الوقوف أمام الكاميرا .
ويشاء الحظ أن يعجب بأدائها أحد المخرجين من أساتذتي ، فيسند إليها دورا في أحد أفلامه ، لتصبح تلك الصديقة بعد ذلك ممثلة نمساوية معروفة بإسم "إيفا سيجر" . هذا علما بأن كلمة "سيجَر" هي الترجمة الألمانية لإسمي الذي درج أصدقائي على مخاطبتي به . لصعوبة نطقهم لـِ "غالب" .


* * *



من طرائف الصحافة الفنية


يتصل بي الصحفي المعروف "॥ ॥" ليتفق معي على موعد لإجراء حوار يتعلق بمشاركتي في المهرجان المذكور। وبعدإنهاءالحوار، يسألني عن إمكانية مرافقتي في سيارتي إلى الإسكندرية ، حيث تقر ر إيفاده لتغطية وقائع المهرجان السينمائي। ونتفق على أن أمر في صباح اليوم الأسبق ليوم الإفتتاح ، لالتقاطه بسيارتي من .وعندما إلتقينا ألح في رجائه أن نمر، قبل الإتجاه إلى الإسكندرية، على "الدار" لتسليم "مادة المهرجان" (!)

ولما قرأ أمارات التعجب والتساؤل المرسومة على وجهي ، قال :

- ماخبيش عليك .. أنا قلت أخلص من جزء من المقالات اللي مفروض أكتبها هناك .. عشان ماأتزنقش .. وبرضه الواحد يلاقي وقت يتفسح في اسكندرية .. (!)

لم يكن قد شاهد فيلمي المشارك في المهرجان। وبالرغم من ذلك فقد ظهرعدد المجلة في الوقت المناسب وبه التغطية المطلوبة. وكان "॥ .." قد اكتفى بما قلته أنا عن الفيلم ، وما حصل عليه مني من الصور الفوتوغرافية التي ملأت صفحتين كاملتين من مجلته .

على أن الأكثر طرافة هو زميله الذي طلب مني أن أكتب بنفسي ما أراه مناسبا.. تعليقاعلى"فيلمي"من وجهة نظرالمجلة الفنية التي يعمل بها (!)

* * *
لكن لم يخل الأمرمن صفحات جادة تتناول العمل تحليلا ومدحا وتقريظا. يتصدى فيها للكتابة عنه جيل من شباب ذلك الوقت من رواد "النقد السينمائي" أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر.. سميرفريد .. فتحي فرج .. سامي السلاموني .. صبحي شفيق ..علي أبوشادي .. كمال رمزي .. رؤوف توفيق .. د. رفيق الصبان .. حُسن شاه ** .. ويوسف شريف رزق الله.. وفوزي سليمان.. بالإضافة إلى "شيخ النقاد" الأستاذ "أ. ك. مرسي".. وهم الذين مازلت أحتفظ - باعتزاز- بمقالاتهم .. وآخرين لا يتسع المجال لذكرهم .
هذا إلى جانب استضافتي في برامج التلفزيون المهتمة بالثقافة والفنون ।

الحقيقة أنني كنت أشعر بأن فيلمي"حكايه" قد نال حقه من التقدير والتكريم والنقد البنّاء .
___________________________________________
(**) الفدائية "أم العبد".. كما لُقبت الكاتبة الصحفية والناقدة "حسن شاه" عندما ذهبت عام69 لترصد نشاط الفدائيين الفلسطينيين أثناء أوج نشاطهم في عبور نهر الأردن للقيام بعملياتهم الفدائية في الأرض المحتلة . كانت الإشارة إلى مقالها تتصدرالصفحة الأولى في جريدة الأخبار بالعنوان الملفت: "النور .. والظل في سينما غالب شعث"


* * *


الكتـــــــــــــــــــابة ..


تنفرج أسارير رئيسة تحرير "حكايات الهلال للأطفال" في دار الهلال ، السيدة "نتيله راشد" ، بمجرد أن سمعت أحد الأصدقاء وهو يثني على لغتك الألمانية ، فتتناول من أحد الأرفف كتابا حديث النشر قالت أنها حصلت عليه مؤخرا ، ضمن مجموعة أخرى من الكتب الفائزة في مسابقة لكتب الأطفال ، من أحد معارض الكتب في ألمانيا (الديمقراطية) ، وتطلب منك أن تسدي إليها خدمة لن تنساها لك ، وهي أن تقوم بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية . تصفحتَ الكتاب ، الكتيب ، ولم تدر ما الذي دفعك ، في حينها ، لإبداء استعدادك وحماسك لذلك .
في يوم تال ، قدمتَ لها الترجمة المطلوبة . ولم تمض أيام أخرى حتى صدر العدد العاشر من سلسلة الكتب المعروفة
"حكايات الهلال للأطفال" بعنوان .. "أبطال صغار" .
وهيهات أن تتخلص من إلحاح رئيسة التحرير بمواصلة الترجمة، إلى أن صدر العدد الثالث عشر من المجموعة بعنوان "الجعران السحري" ، رسوم الصديق الفنان "هبه عنايت" ، ومن ثم العدد السابع عشر بعنوان "عنبر وسكر" و رسوم صديقك "حلمي التوني" .
وتقاضيتَ مبلغ ستيــــن جنيها ، وهو ما كان يعادل مرتبك لشهرين اثنين .
ولم يكد صديقك "محمد صبري" **، رئيس قسم التصوير في نفس الدار، دار الهلال ، أن يتفرج على مجموعة للصور التي
كنتَ قد التقطتها عندما كنتَ ، برفقة زميل الدراسة والصديق الفنان "سامي رافع"، في رحلة إلى إحدى قرى النمسا ، "سانت مارجاريتين" ، التي اشتهرت بموسمها المسرحي المتميز ، حتى انطلق ليعرض فكرة عمل ملف مصور بالألوان لمجلة "الهلال" على رئيس تحريرها .. الكاتب والناقد الكبير"رجاء النقاش" .. الذي رحب بالفكرة ، وطلب منك الكتابة عن ذلك الحدث الفريد .

وهكذا ظهرت أولى كتاباتك في عدد يونيه 1968 من المجلة المذكورة .
ثم توالت الكتابة والترجمة في مجلة "الكواكب" .. ومجلة "السينما" .. وغيرها . وأخص بالذكر الترجمة الكاملة لـ سيناريوهات بعض الأفلام الهامة ، مثل فيلم "إنفجار"Blow up للمخرج الإيطالي المعروف "مايكل أنجلو أنتونيوني" الذي أثارعرضه في ذلك الوقت زوبعة فنية .
وهكذا اهتديتَ إلى طريق مُعَبّد ، لا غبار عليه ، لتحسين وضعك المادي .

______________________________________________________________
(**) الفنان محمد صبري الذي أتاح لي في بيته المكان الملائم لكتابة جزء لا بأس به من سيناريو فيلم "الظلال..." ، ريثما أهتدي إلى مسكن ملائم ، وحيث رافقني الفنان التشكيلي ذوالإهتمامات السينمائية، فخري الليثي ، الذي واكب أغلب مراحل كتابتي للسيناريو وكان له الفضل في المساعدة على استحضار أجواء كلية الفنون الجميلة القاهرية .. كما كان له الفضل في تأكيد قناعتي بنقل أحد مشاهد الفيلم إلى "بيت السحيمي" العريق مما اعتبر، في نظر النقاد السينمائيين ، ميزة وريادة في ابتكار أماكن التصوير السينمائي .


* * *



آلام السيد المسيح ..

في قرية ألمانيه **


في اليونان .. قديما .. كانت هناك جماعة يطلق عليها إسم "أتباع ديونيزوس" . وكانت هذه الجماعة تمارس ما يسمى بـ"الطقوس السحرية" التي تطورت إلى احتفالات دينية تقام في مواسم معينة من كل سنة. وكانت هذه الإحتفالات مرتبطة بحياة "الإله ديونيزوس" وهذا ما سمي بعد ذلك بـ "الدراما الموسمية" .
وكان قوام هذه الإحتفالات هو الأناشيد أوالأغاني"الديونيزية"ورقصات "الديثورامبوس" التي قال عنها أرسطوأنها أصل "الترجيديا الإغريقية". وقد تطورت هذه الأغاني الجماعية إلى أن اتخذت شكل "الكورال" . ومن الحوارالذي كان يجري بين الكورال وقائده ولدت الدراما أوالمسرحية .. بعد أن أدخل "أسخيليوس" عليها الممثل الثاني مما أدى إلى غلبة عنصر الحوار على الغناء نتيجة لوجود الصراع بين وجهات النظر . وأضاف "سوفوكليس" ممثلا ثالثا مما زاد من أهمية النص ، وإثراء الحدث ، و إغناء الشكل .
كانت المسرحيات البدائية إذن لا تعدو أن تكون تطورا لتلك الطقوس الدينية التي قام بها "أتباع ديونيزوس" .. فهي تحكي قصة حياة وآلام الإله "ديونيزوس" .
وفي القدس .. قبل العدوان الصهيوني واحتلاله للمدينة عام 67.. كان هناك موكب ديني ينطلق ظهر يوم الجمعة من كل أسبوع في "طريق الآلام" Via Dolorasa (الذي يمر من أمام دارنا في القدس) . وهو الطريق الذي سلكه المسيح عليه السلام حاملا الصليب إلى جبل "الجلجثة"، حيث تقع الآن كنيسة القبر .. أوكنيسة القيامة . إنه الفصل الأخير من مأساة المسيح الذي رحل مؤمنا أنه يحمل معه آلام البشرية .

وفي معظم بلدان العالم .. مازالت الشعائرالدينية تقام في ذكرى "يوم الجمعةالحزين" .
بعض هذه البلاد لا تكتفي بالمشهد الأخير، بل يعاد تمثيل مأساة آلام المسيح و صلبه بأكملها في "أسبوع الآلام" .
كما درجت بعض بلدان أوروبا على تحويل هذه الشعائر إلى مهرجانات تذكرنا بما سمي قديما بـ "الدراما الموسمية" .. وبالإله "ديونيزوس" والإحتفالات التي كان أتباعه يحكون قصة حياته وآلامه .. مؤكدين بذلك تقديسهم له .
وأشهرهذه المهرجانات وأقدمها هو ذلك المهرجان الذي يقام في قرية "أوبرأمِرجاو" في ألمانيا .
ولهذا المهرجان قصة :
ففي عام 1633 اجتاح وباء الطاعون القرية ، وبلغ عدد ضحايا الوباء في القرية الصغيرة 84 شخصا خلال شهور قليلة .
وفي ذلك الوقت أجمع بعض رجال الدين وشيوخ القرية على القيام بإعادة تمثيل مأساة صلب المسيح كنوع من التقرب إلى الله والاستجارة به . ومنذ تلك الساعة لم يصب أحد من أهالي القرية .
وأوفى أهالي القرية بالنذر، وقاموا بتمثيل المأساة في مقبرة القرية . ثم استمرت القرية في تقديم هذاالعمل مرة كل عشر سنوات .
وسجل عام 1960 نجاحا كبيرا للموسم رقم 34، حيث قدمت القرية 93 عرضا شاهدها 518000متفرج .
وبلغ عدد التقارير والمقالات الصحفية ، المحلية والأجنبية ، حوالي 6300 مقال .
لم تخل هذه المقالات من نقد للنص الذي لم يتغير منذ أن عرضت فيه التمثيلية لأول مرة .
وسلطت الأضواء على نص آخر يرجع إلى عام 1750 من وضع الروائي اليهودي "فيرديناند روزنر" .
وظل النقاش يدور في مجلس القرية حول النص الذي سوف يقدم في الموسم التالي عام 1970.
وانقسم المسئولون على أنفسهم إلى فريقين :
فريق يطالب باستخدام نص "روزنر" الذي يتجنب إدانة اليهود ويبرئهم ضمنا من دم المسيح .. و"لا يتسم بمعاداة السامية" ..
والفريق الآخر، وهوالغالبية، يصرعلى استخدام النص القديم والاستعداد به للموسم القادم .
إلا أن المديرالمسئول حسم الموقف وقرر رفض نص "روزنر" قائلا :
"إذا كان لا بد من إيجاد نص جديد .. فما علينا إلا أن ننتظر ظهور ذلك الرجل الذي يدور حوله مضمون النص أولا . "
ونتيجة لذلك استقال مخرج المهرجان المثّال "هانس شفايجهوفر" .. وسافر إلى إسرائيل بدعوة رسمية منها .

أما أحدث هذه المهرجانات .. فهو ذلك الذي يقام في قرية "سانت مارجاريتين" في إقليم "بورجنلاند" في النمسا . تلك القرية الواقعة في واد خصيب تحيط به جبال ما زالت عليها آثارالرومان القدماء. والوادي مشهور ، شأن معظم أراضي الإقليم المذكور، بكروم العنب ، وتصدير النبيذ . ويعمل أهل القرية (3500نسمة) في زراعة العنب .
ويقام هذا المهرجان في أشهرالصيف . يشترك فيه ، تمثيلا وتنفيذا ، حوالي 200 رجل وإمرأة وطفل من أهالي القرية، معظمهم من الفلاحين ، هذا إلى جانب كورال مكون من 50 مغن ومغنية .

في سفح أحد الجبال بنيت ديكورات ثابتة من الحجر ، تحسبها لأول وهلة جزءا من مدينة القدس القديمة ، على مساحة واسعة يرتع فيها "جنود الرومان" على خيولهم أمام جماهير المتفرجين .
هذا وقد جهز هذا "المسرح الطلق" بأجهزة الصوت اللازمة والتي تتيح للمتفرجين القادمين من شتى الأنحاء متابعة الحوار .
يعاد العرض عشرين مرة في السنة ، موزعة على خمسة شهور ، من مايو حتى سبتمبر ، حيث يحين بعدها وقت الحصاد .
ليس بين الممثلين أحد من محترفي التمثيل .. فمعظمهم من الفلاحين .
وبعد أن ينتهي موسم العروض ، يعود "السيد المسيح" و "تلاميذه" إلى أعمالهم وحقولهم ..
ويعود "بونتيوس بيلاتوس" إلى معصرته .. و " يهوذا الإسخربوطي" إلى دكانه .
وتعود "مريم العذراء" إلى تلاميذها في مدرسة القرية .. و"مريم المجدلية" إلى بيتها وزوجها .
والممثلون الذين يقومون بالأدوار الرئيسية معروفون في القرية . ولكل واحد منهم "دوبلير" أو خليفة .
ولا يحتاج منهم هذا العمل إلى جهد كبير، فقد أصبح جزءا من حياتهم ، يقومون بأدائه طوعا على مر السنين طالما هم قادرون على ذلك ।

_____________________________________________________________
(**) كانت مجموعة الصورالملونة التي نشرت في المجلة هي الأصل في الموضوع . لكن الإهتمام بالنص يأتي لأهميته في سياق التنويه عن "الإعلام الذكي" .. واستغلال اللوبي ، قوى الضغط ، الصهيوني منذ عشرات السنين لكل ما من شأنه أن يساند أغراضهم الإستيطانية التوسعية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق