الأحد، 16 مايو 2010

( فلاش باك Flash back) ..


كانت "السينما" تستهويني دوما. وكان ما يكتب عن الأفلام السينمائية في الصحف والمجلات يستدرجني لأشاهد هذا الفيلم أو ذاك ، ثم أقارن بين ما كتبه هذا الناقد أوغيره . وأهرع لأرى كيف عالج ذلك المخرج تلك الرواية ، التي حولها خيالي أثناء قراءتها أو بعدها إلى فيلم سينمائي . أو أسارع إلى قراءة قصة أو رواية جرى تحويلها إلى فيلم سينمائي قبل أن أشاهده ، أو بعد ذلك . وهي عادة قديمة ، تعودتها في صباي المبكر. هذا بالرغم من تلك النظرة الاستنكارية ، المتخلفة ، من قبل أوساطتنا المتزمتة لمثل هذه الاهتمامات . ولازمتني تلك العادة بشكل أكثر جدية ، أثناء دراستي في "فيينا"، حيث كان المجال أوسع وأرحب . خصوصا في فترات تدريبي وما بعدها ، حيث كانت أحوالي المادية تتيح لي التردد على "الصفوف الأمامية" ، الأقل تكلفة ، لمختلف دورالسينما في فيينا .. بشكل يومي تقريبا .

* * *


لم يترك صديقك طالب الموسيقى المصري، خفيف الروح ، "عبدالحميد مصطفى"، فرصة تفوت دون أن يتندر بأثار "إدمانك" على الجلوس في مقدمة الصفوف الأمامية من دور السينما على هيئتك التي باتت تتميز بظاهرة رأسك "المحدوف" إلى الخلف .. جالسا كنت أو ماشيا .
هذا بينما فسرآخرون تلك "الظاهرة" بأنها من مظاهر تهمة التعالي التي كان بعضهم يرميك بها ، وهو (ويا للعجب) ما يتناقض مع صفة "الإفراط في التواضع" التي دأب بعض الأصدقاء المقربين بعد ذلك على وصفك بها ، وتحذيرك منها ، لما قد يفسره بعض ضعاف النفوس بعدم ثقتك بقدراتك .

* * *

كان ذلك هو ماقاله لك صديقك الشاعر "سيد حجاب" حينما صادف أن ضبطك في بهو مبنى التلفزيون في القاهرة متلبسا بالإصغاء إلى حديث أحد الزملاء عن الفرق بين الإخراج السينمائي والإخراج التلفزيون . ذلك حينما انتشر نبأ قيامك بإخراج أول أفلامك الروائية في القاهرة .
وقف "سيد حجاب" في ذلك الوقت ينتظر نهاية حديث الزميل . ولكنه لم يستطع الاستمرار فترككما بشكل يدل على ما سببه له الزميل من استفزاز .
لم تسلم من لوم وسخرية صديقك "سيد حجاب" لاحقا على طريقة إصغائك لزميلك في العمل :
- "واقف تسمع له بتَلْمَذَة شديدة" بينما هو يسترسل في شرح أشياء إنت مش بحاجة إلى سماعها .. وانت قاعد تهز راسك وتوافقه على كلامه .. إلخ !

عندها لم أجد ما أقوله ، ولكنني حاولت :
- يا سيّد يا صديقي .. الراجل كان مبسوط ووجهه ينطق بالسعادة لاهتمامي بما يقول .. وأنا كنت شايف إنه مش لازم أحرمه من هذه اللحظات السعيدة .. بينما لا يكلفني ذلك شيئا سوى أن أهز له رأسي موافقا بين حين وآخر .

* * *

في بداية المرحلة الدراسية الأولى ، كانت دار سينما "أورانيــــــا" Urania تتوسط المسافة بين مبنى أكاديمية الفنون التطبيقية وبين مسكني في الحي الثاني، في"فيينا"। وكثيرا ما كانت نافذة عرض صور "الأفلام القادمة" تلفت نظري أثناء رحلتي اليومية بالمترومن البيت إلى الأكاديمية وبالعكس. ثم دأبت بعد ذلك على أن أتحايل على المسافة ، لأقطعها مشيا على الأقدام ، بأن أمرعلى تلك المؤسسة ، أتفرج على صورعروضها المقبلة وأتزود بنشراتها، فأكون بذلك قد اجتزت نصف المسافة ، ولا أجد ضرورة لركوب المترو لاجتيازالنصف الآخر منها . وكانت تلك الدار تتميز بأنها تتبع إحدى المؤسسات الثقافية ** ، التي تحمل اسمها ، وتتخصص بشكل مخلتف في عرض الأفلام التسجيلية وأفلام المهرجانات ذات القيمة الفنية والفكريه . فهي مشهورة ، مثلا ، بــِ"أسابيع الأفلام" بأنواعها .

______________________________________________
(**) وهي المؤسسة التي أوحت لي فيما بعد بمشروع تخرجي من أكاديمية الفنون التطبيقية .. مشروع مبـــنى "المــركـز الثقــــافي الفلسطيــــني" .


وكانت سينما "أورانيا"هي أول عهدي بالأفلام التسجيليه، التي لم تكن في الغالب، في نظري ونظرالكثيرين، سوى"جريدة ناطقة" تحتوي على "ريبورتاجات" تعرض عادة قبل عرض الفيلم الرئيسي في دورالسينما .
أصبحت أجد متعة في مشاهدة فيلم تسجيلي طويل ، أو مجموعة أفلام قصيره ، تنقلني إلى أماكن متعددة ، وتنقل لي واقع تلك الأماكن بدون تزييف أو تجميل . إلى أن جاء يوم عرض فيلم تسجيلي اسمه باللغة الألمانية "Paradies.. und Feueroefen " بمعنى "الجنة ..
وأفران النار" ، والذي كان ينقلنا من الحديث عن نار "أفران الغاز النازية" إلى استعراض"الجنة" التي صنعها اليهود لأنفسهم من صحراء فلسطين (!)

كان ذلك في أواخرعام 1960 ، على قدرما أذكر.
ولكنني ما زلت أذكر، وبالتفصيل ، تسلسل اللقطات المأخوذة من الجو ،
والتي كانت تنقلنا ، عن طريق "المزج" ، من أراض صحراوية شاسعة قاحلة وقد تشققت بسبب ما أصابها من العطش ، إلى مساحات لا نهاية لها من اللون الأخضرالجميل . ثم نرى بتفصيل تدريجي أشجار البرتقال بثمارها الذهبية اللون المتلألئة ، وفتيات جميلات يرتدين "الشـورت" الذي يكشف عن سيقان لا تقل نضارة و تلألؤا ، وهن يجمعن المحصول، ويضعنه في صناديق كتبت عليها كلمة "يافا" .. تلك الكلمة التي باتت بديلا عن الإسم المعروف والمتداول .. "البرتقال اليافاوي" ، وينشدن أغنية ، بكلمات عبرية ، لا تحتاج إلى كثير من الدهاء لتعرف أن لحنها ينتمي إلى أصول عربية .
وتتعالى شهقات الإعجاب في صالة العرض من الجمهورالذي رأى بأم عينه كيف حول "اليهود" المضطهدين نارهم إلى جنه . وكيف أصبحت الأرض القاحلة (الخالية من السكان ) ، بفضلهم ، وطنا جميلا ، لشعب جميل كان مشردا بلا وطن .
ثم يرى الجمهور موقعا قاحلا على شاطيء البحر، كان فيما سبق ، حسبما يفيد التعليق ، مجرد محطة لقوافل الجمال ( ! ) فإذا بهذا الموقع يتحول ، حسبما يرى الجمهور، بأم عينه ، على أيدي ذلك "الشـعب المختـار" إلى .. ميناء عصري .. ومدينة جميلة حديثه اسمها .. "حيفـــــا" ( ! )
بدا لي جليا أن لغة السينما قد اقتربت من ، أو ربما سبقت ، اللغة الشعرية في مقدرتها بفصاحة التعبير وبلاغة الوصف على الإقناع ، بحيث أمكن استغلال قوة تأثيرها ، لتحويل الأكاذيب إلى حقائق تراها العين ، فتستعذبها ثم تصدقها .
لا عجب ! فقد قالوا قديما .. " أعذب الشعر أكذبه" !
ألا يذكرنا هذا بأفلام الدعاية لـ "صابون الجمال" والـ "شامبو" ! حيث يجتهد صانعوا تلك الأفلام في اختيار فتيات جميلات ذوات بشرة نضرة أو شعور حريرية منسابة بطبيعتها ، ثم يدبجون الكلمات والصور التي توهم أن ذلك ما كان إلا نتيجة لاستعمال المنتج المعلن عنه ؟!
بعد ثلاث سنوات ، وفي الفترة التي قضيتها متدربا في أحد كبرى الشركات الهندسية في "فيينا" ، استعدادا لعمل مشروع التخرج المذكور، بعد عودتي من "فوبرتال" ، كنت أسكن بجوار صالة سينما "كولوسيوم" Kolosseum في الحي التاسع .
دأبت تلك الدار، لمدة عام كامل ، على الإعلان عن عرض ثان لفيلم المخرج "أوتو بريمينجر" Otto Preminger ، عن رواية"ليون أوريس" Leon Oris.. "إكسوداس" Exodus .. "الخروج" .
لم أكن قد شاهدت الفيلم في عروضه الأولى ، وإن كنت قد قرأت الكثيرعنه . وكان ذلك مما حفزني على قراءة الرواية (من منشورات دار"أرض الدانوب" Donauland ) بالرغم من طولها ، وبالرغم من تواضع لغتي الألمانية آنذاك .

* * *


طوال أكثر من ساعتين ، وهي مدة عرض الفيلم ، كانت تتناهى إلى مسامعك همسات المشاهدين ، ونهنهات الباكين ، وشهقات المندهشين، وآهات المنفعلين، وتعليقات المستنكرين ، وتصفيق المتعاطفين مع أسطورة "الروّاد" وأوهام ازدهار الصحراء الخالية المجدبة على أيديهم وإقامة دولتهم ببذل الدم والعرق والدموع .
شاهدتَ الفيلم مرة أخرى ، وثالثة ، ورابعه .
وفي كل مرة ، كان الإقبال يتزايد . ويخرج المشاهدون وكأنما أجريت لكل واحد منهم تلك العملية التي يسمونها : Brain Washing "غسيل مخ"!
أمارات "التغيير" بادية عليهم . كنت تراقب تلك الأشياء التي جسدت أمامك مقولة أن "التغيير" هو "غاية الفنون وهدفها" .. وأن السينما "أهم الفنون" .
"إكسوداس" .. (وغيره من الأفلام السينمائية الأخرى التي دأبت على تكرار نفس القصة) .. قصة شعب أعزل يعاني من اضطهاد قوى الشر، التي تقترف جرائم القتل الجماعي ضده تارة ، وتحول دونه و"العودة" إلى أرضه تارة أخرى (!)
ثم تعلن ، قوى الشر تلك ، تقسيم أرضه وإعطاء جزء منها إلى فئة من البدو المتوحشين ، الذين نراهم وهم يحرقون الزرع ويقتلون المواشي ، ويكرّون .. ويفرّون .. مولولين كما
" الهنود الحمر" في الأفلام الأميريكية.
لكنهم ، "أبناء شعب الله المختار" ، بإيمانهم وتضحياتهم وتضافرهم وتمسكهم بحضارتهم (!) ، بعد سنوات طويلة من عناء القهر والظلم ، استطاعوا أن يحققوا النصر ويعلنوا "استقلال" بلادهم وقيام دولتهم المسالمة ، التي تستحق العطف والتأييد ، لأنها قائمة على الحب والديمقراطية وسمو المباديء والأهداف !
كل ذلك ، بلغة سينمائية عالية ، وأداء متقن مقنع لممثلين لهم مكانتهم العالميه ، "بول نيومان" و "إيفا ماريا سينت" ، ومشاهد مؤثرة توفر لتنفيذها كل الإمكانات التقنية بحساب دقيق .. أو .. بدون حساب .

* * *


لا أبالغ كثيرا حينما أقول أنني كدت ، أنا الفلسطيني المشرد ، أن أتأثر بما رأيت وسمعت ، أو أن أتعاطف للحظات معه ، أوعلى الأصح مع تلك الحالة (!)
نقطة التحول في حياة المرء، كما يقول الفيلسوف الإجتماعي الألماني "فرديناند تونييس"، تعتمد في غالب الأحيان على مصادفة لا تلبث أن تهيء لأوضاع معينة ليست في الحسبان من شأنها أن ينفعل بها المرء سلبا أو إيجابا فيكون نتيجة هذا الإنفعال إتخاذ قرار يحدد مسار حياته أو يؤثر في علاقاته .
كان هذا الفيلم (مع غيره من شاكلته) هو نقطة التحول في حياتي . وقد اتخذت قراري ببساطة متناهيه . بل وجدتني مرة أضحك ، وأنا أسأل نفسي، ساخرا ، عن جدوى دراستي لـِ فن"العمارة الداخلية".."الديكور"!
فما دمت أدعي ارتباطي بقضيتي ومصير شعبي ، فما هي حاجـتة لهذه الرفاهية وهو، في معظمه ، يسكن المخيمات ، التي سوف تتحول ، على أحسن الفروض ، إلى معسكرات للفدائيين (؟!)

صحيح أنني أحببت "السينما" منذ صباي المبكر .
وصحيح أنني، في صباي المبكر، أو في سنوات مراهقتي ، طالما حلمت بأن أصبح مخرجا سينمائيا .
لكنني الآن أصبحت أعرف سببا أو هدفا لهذا الاختيار .
أعرف الآن ، على سبيل المثال ، مدى حاجة الكثيرين من البسطاء أمثال من شاهدوا فيلم"الخروج" ، في كل بقاع الأرض ، إلى أفلام تتحدث عن الوجه الآخر للحقيقه .

تذكرت ما قاله البقال اليهودي النمساوي الكائن دكانه في شارع "هاينه" المجاور لمسكني بالحي الثاني ، والذي كان قد عاد مؤخرا للاستقرار في بلده "فيينا"، بعد أن تركها مهاجرا إلى إسرائيل في أوائل الخمسينات .
قال لي بأسلوبه الساخر الممرور، بعد أن عرفت قصته ، بعد عدة مرات تبادلنا فيها حديثا وديا :
- لو أن "عبد الناصر" اتخذ لنفسه وزير إعلام ذكي ، مثلما فعل "هتلر" مع "جوبلز" ، ليُطلع العالم على الوجه الآخر للقضية الفلسطينيه ، لكان ، على الأقل ، قد وفرعليّ مشقة الإنتقال إلى "أرض اللبن والعسل" تلك .. لكي أتبين الحقيقه .
الإنسان البسيط يصدق ما يسمعه أو يقرأه أو يراه من "حقائق" أجهزة الإعلام ، وهوعندما يعرف أن للحقيقة أكثر من وجه ، عندها يبدأ بالتفكير .

ثم أردف قائلا :
- الإعلام .. الإعلام الذكي يا عزيزي .. هذا هو ما ينقصكم !

* * *




"باول يوزيف جوبلز" هو القائل :
"إكذب .. ثم إكذب .. ثم إكذب حتى يصدقك الناس !"

والقائل :
"من يقول الكلمة الأولى للعالم هو دائما على حق !"

وهو، أيضــا ، صاحب المقولة المشهورة :
"أتحسس مسدسي كلما اخترقت أذني كلمة ثقافة !"


* * *



( قطـــــــــــــــــــــــــــع ! )

كنت أثناء استكمال عملي كمتدرب في "فيينا" ، بعد عودتي من ألمانيا ، قد قرأت عن مسابقة للقبول في قسم الدراسات العليا للسينما في أكاديمية الموسيقى والفنون التعبيريه .
في موعد التقدم للمسابقة ، وجدتني ، منساقا بقوة خفية ، أستأذن رئيسي في العمل ، الذي كان يكن لي كثيرا من المودة ، للخروج لقضاء أمر هام .
وبعد بضعة أيام ، حمل إسمي رقم 138 في قائمة المختارين للتقدم لامتحان القبول للدراسة العليا في أكاديمية الموسيقى والفنون التعبيرية – فرع السينما والتلفزيون .
ولدى انتهاء فترة التدريب ، واقتراب موعد إبتداءالسنة الدارسية، ودعني رئيس الشركه ، المهندس ذائع الصيت ، طيب الذكر، متعدد الألقاب ، " هانس هوبينبيرجر" HansHoppenberger Pro.Dr.Dr.Hc.
بتمنياته لي بمستقبل باهر. ولم يتردد في عرض خدماته ودعوتي للعمل لديه ، في شركته الهندسية ، بعد تخرجي في نهاية ذلك العام . ثم أخذ ، بعد أن أثنى على مشروع "المركزالثقافي الفلسطيني" المذكور، والذي كنت أقوم بإعداده للتخرج ، يحدثني بإسهاب عن "المنشآت" التابعة لمشروع السد ، التي تعاقدت شركته بشأنها مع شركة "سيمنز" Siemens الألمانية لتنفيذها في سوريا . وقال أنه كان "يدّخرني" للسفر والمشاركة مع البعثة النمساوية الألمانية (!)**
ولشدما كانت دهشة رئيس الشركة حينما عرف أني سأواصل الدراسة في مكان آخر. إلا أنني ، تخفيفا لتلك الدهشة واتقاء لنظراته التي كانت تتهمني بالجنون ، ادعيت أنني سوف أتخصص في هندسة ديكور السينما . وهذا مما جعله يزودني برسالة إلى صديقه وزميل دراسته
المهندس البروفيسور "فيبَر" Weber ، رئيس ذلك القسم ، ونائب عميد معهد السينما في الأكاديميه .
كما وأنه أخذ يلح ويؤكد لي أن لا أتردد في العودة إلى مكتبه في أي وقت لكي أعمل لديه بنظام الـPart time ، إذا اقتضتني الحاجة المادية إلى ذلك .

والحقيقة أنني في غمرة مروري من خلال لجان التصفيات المتعددة ، نظرا لضخامة عدد المتقدمين لها ، والتي كان يرأسها البروفيسور "فيبَر" نفسه ، وشعوري باهتمامه بي وتشجيعه لي، لمجرد معرفته بخلفيتي الدراسيه ، فقد نسيت أمرالرسالة ، فلم أسلمها له إلا بعد صدور النتيجة ، مما زاد من احترامه لي ، كما أخبرني بعد ذلك .
حاول جاهدا ، بشخصيته المريحة وأسلوبه المرح ، أن يشدني إلى قسم "الديكورالسينمائي" الذي يديره ، لكنني كنت قد عقدت العزم على التخصص في "الإخراج" .
___________________________________________________
** ولم يفوِّت أخي "عابد" الفرصة ، كعادته ، لتعليقاته الساخرة .. ومنها :
- .. والله و صرنا يا خويا ياغالب من ضمن "الخُبرا الأجانب"!


* * *


أتذكر سؤالا وجهه لي أحد الأساتذة في إحدى اللجان الأولى । كان ذلك هوالسؤال التقليدي الذي يدورحول السبب الذي جعلني أقرر دراسة السينما والتخصص في الإخراج السينمائي بالذات . قلت باختصار وبدون إمعان في التفكير ॥ وبالحرف الواحد :

- أنا فلسطيني.. لاجيء .. صاحب قضية.. تطلقون على أمثالي وصف Staatenlos " بلا وطن"، أو"غيرمعين الجنسية". ذلك نتيجة لإحتلال بلادي فلسطين من قبل اليهود الصهاينة الذين جاءوا إليها من أنحاء مختلفة من العالم . ولا أجد ما يلاءم قدراتي للدفاع عن قضيتي أو النضال من أجل استرداد حقي والعودة إلى داري، التي ولدت فيها ، في بلدي "القدس" ، أفضل من هذه " اللغه" كسلاح .
هذه هي قناعتي ، أما عن مدى استعدادي أو صلاحيتي لذلك ، فهذا ما سوف تقررونه أنتم .

واستدرجتني ملامح أحد الأساتذة الممتحنين ، البروفسور"فينجه" Hans Winge ، إلى استكمال توضيح وجهة نظري :
- .. استطاعوا أن يقنعوا العالم بأن فلسطين هي "أرض بلا شعب.." .. .. إلخ
وعلينا ، نحن الشعب الفلسطيني ، أن نؤكد للعالم ، بشتى الوسائل ، أننا كنا وما زلنا موجودين . ذلك قبل أن تنجح مساعيهم ، بشتى وسائلهم ، لتنفيذ خططهم لطرد البقية الباقية منا من أراضينا في فلسطين .

أضاف البروفيسور "فينجه" سائلا :
- هل أفهم من ذلك أن اهتمامك منصب على عمل الأفلام الوثائقية والإعلامية ؟
قلت :
- الذي أعرفه بكل تأكيد أن لنا "روايتنا" التي يجهلها العالم ، ولا بد لنا من أن نرويها له بوضوح ، وبالشكل الملائم .
هذا .. ولابد من أن أعترف بأنني أميل إلى الشكل الروائي .. "الدراما" .. لقدرته على توصيل الفكرة .

* * *


في أماكن أخرى من هذه "السيرة".. سوف تتردد في خاطرك تلك الكلمة التي قالها البروفيسور"فيبَر"، بعد مرور سنوات الدراسة ، وعقب انتهاء مناقشة فيلم مشروع التخرج في الأكاديمية .
قال بالحرف الواحد :
- .. وأضم صوتي إلى صوت هيئة الزملاء، بمنح "الزميل"* "شعث" دبلوم "الإخراج السينمائي"، وكذلك دبلـــــوم
"السيناريو والدراما التلفزيونيه" بدرجة "الإمتياز بالإجماع" ** ।

______________________________________
(*) كان البروفيسور يخاطبني دائما بـ "الزميل" باعتباري مهندسا زميلا له في الأصل .
(**) وذلك ما يقابل عندنا "الامتياز بدرجة الشرف" .


ثم أضاف بلهجته التي دأبت على إشاعة المرح في حضوره :
- فلقد جاءنا وهو يتقن اللغة الإنجليزية إلى جانب لغة الأم ، العربية ، وها هو يغادرنا وهو يتقن ، علاوة على اللغة الألمانية ، لغة أخرى عالمية .. هي اللغة السينمائية .
ولا يسعني بهذه المناسبة إلا أن أهنئه .. واقول أيضا ..
"هنيــــئا لأهله ولشعبــــه بـــــه !"


كنت تعرف مسبقا تقديرات نجاحك . لكنك فوجئت بالكلمات الأخيرة التي ضخمت إحساسك بالمسئولية وأضافت إلى قاموسك معنى آخر لمعاني الوطن والإنتماء إليه .
خرجت بعد سماعك لتلك الكلمات مملوءا ثقة وزهوًّا .. وآمـــــــــــــــــــــــــــــــالاً .
يغمرك الإحساس بالقوة.. واليقين بأنك قد أحسنت الاختيارعندما قررت أن يكون سلاحك لخدمة قضيتك هو .. السينما .
هأنت قد خطوت الخطوات الأولى في الطريق الطويل .. طريق الألف ميل !
هأنتذا قد حققت ما سعيت إليه.
هأنت قد امتلكت "بندقيتك".
لم يعد أمامك سوى الحصول على "الذخيرة" .. الخبرة العملية.
فالسينما من أكثرالفنون قدرة على فتح باب التواصل بين الأمم . و"سينما فلسطينية"، هي القادرة على فتح الأبواب الموصدة من حول الإنسان الفلسطيني والخروج به إلى آفاق رحبة تجعله يعود إلى الوجود الفعال ، وإلى معاودة المشاركة الفعالة ، مستقبلا ، في بناء الحضارة الإنسانية .

ألم تتعلم أن الفنان الحقيقي هو من يحرص في إبداعاته على تحديد ملامح أمته ، وأنه بالتالي من أبرز حماة الهوية ؟


* * *


لن تنسى ذلك الإحساس الذي داهمك وطغى على مشاعرك وكاد أن يفقدك فرحتك لولا أن ساقتك قدماك إلى أقرب مكتب للبرق والبريد حيث استطعت أن تدبج باللغة الإنجليزية برقية مختصرة جدا لأخيك "عابد" في السعودية .. ذيلتها بتوقيع راق لك في حينها :
"المخرج السينمائي الفلسطيني" !
وفي اليوم التالي فقط ، بعد مرور أطول ليلة سهد في حياتك ، اكتملت فرحتك ، عندما صافحت عينيك برقية أخيك "عابد" ومن بعدها برقيات والديك وشقيقاتك تحمل لك تهاني النجاح .

* * *

هذا ، وأظنني لن أنسى ما همس لي به البروفيسور "فنجه" Winge ، الذي لم أشك لحظة في نبرة الإخلاص في كلماته :
- .. لقد قمنا بتعليمك وتأهيلك لأن تصبح مخرجا سينمائيا كما كنت تسعى . وأشهد أنك أبديت استعدادا واستيعابا لا بأس بهما لما حاولنا أن نعطيك إياه من علم و"تكنيك" . ولكن .. عليك أنت أن تطور قدراتك بجهدك بحيث تمتلك ما لا نستطيع ، ولا أحد يستطيع أن يعطيك إياه .. وأعني ...

وقام البروفيسور بأداء حركات وئيدة بمرفقيه ، كمن يحاول أن يشق طريقه وسط الزحام ..
ثم أكمل :
- .. Elbow Technique .. تكنيك إستعمال المرفقين .. والتزاحم بالمناكب .. فأنا ، يا بني ، أخشى أنك تفتقد لصفة مهمة في مجال عملك وهي صفة الـ .. Fighter المقاتل !

* * *




مقاتل ؟!

أظنك قد اخترتَ "السينما" كسلاح توسمتَ فيه وسيلة تكفيك شرالقتال .. فأي قتال هذا الذي تحتاج إليه وقد شهد جميع أساتذة الأكاديمية بامتلاكك للغة السينما وقدرتك على ممارسة هذا الفن ؟!
أي هراء هذا يا سيدي البروفيسور ؟!
وهل يتعين على المرء أن يقاتل من أجل أن يعطي ؟!


* * *


تمثيل النمسا ॥ (!)

كان مشروع التخرج من أكاديمية السينما عبارة عن فيلم روائي قصير، أسميته "حكايه" Episode ، مدته 20 دقيقه ، وهي الحد الأقصى للطول المتاح .
كتبت له السيناريو، عن القصة القصيرة ، " بين قطارين "، للكاتب الألماني "فيرنر كلاوزن" Klausen Werner .
قصة حب عاثر، لم يستمر بسبب الخلافات الفكريه الأيديولوجية التي عادة ما تؤدي إلى طريق مسدود، بين الطالب الشاب وزميلته ، التي سرعان ما التقت بشخص آخر واستقرت معه في بلد آخر . لكن أواصر الصداقة بقيت قائمة بينهما عن بعد، في حدود تبادل الرسائل أو بطاقات التهنئة بالأعياد والمناسبات .
في أحد الأيام ، بعد مرورعامين على فراقهما ، يتسلم الشاب بطاقة منها ، تخبره فيها بأنها ستقوم ، خلال رحلة عودتها من إجازتها ، بتغييرالقطار في مدينتهما التي مازال يقيم فيها (والتي شهدت سنوات حبهما) وأن هناك بضع ساعات بين موعد القطار الذي ستصل به والقطارالذي ستواصل به رحلةعودتها ، وتسأله عن إمكانية اللقاء به خلال تلك الساعات .
ويروي الفيلم .. بعد "فلاش باك" سريع يجسد ذكرى الأيام الجميلة من الماضي الذي لا سبيل إلى نسيانه .. ما يجري بينهما في تلك الساعات القليلة ، منذ وصول قطارها ، واستقباله لها ، حتى موعد مغادرة قطارالعوده ، بعد فراق دام لمدة سنتين .
لحظة اللقاء . ولحظات الصمت والحرج من الحديث عن الماضي الذي مازال يحتل مكانة في قلبيهما . والنظرات المختلسة أثناء إجابة أحدهما المقتضبة عن سؤال جاهد الآخر لصياغته بحيث يبدو طبيعيا لا يخفي وراءه قصدا ما . المحاولات اليائسة لكل منهما في التسلل إلى أعماق الآخر. أسئلة مختصرة وإجابات مبتورة تحكي في مجموعها قصة تكاد تكون مكررة ولكن بتفاصيل مختلفة. ومحاولات الهروب إلى أماكن أخرى غير تلك الأماكن التي تعيدهم إلى اجترار الماضي . ولحظة الفراق التي كان لا بد من أن تأتي ، بالرغم من حنين كليهما الجارف إلى ذلك الماضي ، ورغبتهما الدفينة في انبعاث حبهما القديم من جديد .
ثم تأتي اللقطة المكبرة لوجه الفتاة الصامتة .. يبدد هذا الصمت ، بالتدريج ، صوت القطار المسافر .. ويختلط مع صوته ويحل محله صوت موسيقى كونشيرتو "رحمانينوف" الثاني للبيانو، التي غلفت لحظات الفيلم منذ بدايته . وينتهي الفيلم بلقطة علوية بعيدة للقطار وهو يخرج من الصورة لتبقى الخطوط الحديدية المتوازية والمتقاطعة خلفية للعناوين ، وتظل الموسيقى تغطي نهاية "عناوين الفيلم" حيث ينتهي "الكونشيرتو" مع الإظلام التدريجي للصورة .
كان أكثر أعضاء لجنة التقييم حماسا للفيلم ، هو أستاذ الإخراج ، الذي طالما حذرني ونصحني باختيار موضوع آخر لمشروع التخرج ، إشفاقا من صعوبة تنفيذ تلك الفكره . فلقد أخذ يكرر القول بأن السيناريو الذي قدمته يحتوي على تفاصيل تهتم بوصف حالات نفسية ، وتصوير لحظات صامتة من شأنها أن تعبر عن أحاسيس تكمن في أعماق الشخصيتين ، وهي مشاهد لا يتمكن من تنفيذها سوى مخرج متمكن ذو تجربة طويلة . بل إنه (رأفة بي) قال في أحد المرات التي حاول فيها إقناعي بالبحث عن موضوع سهل ومضمون ، على مسمع من بقية زملائي الطلبه ، أن هذا الموضوع لا يجرؤ على تناولـه سوى مخرج متمكن مثل "أنتونيوني" ، مثلا !
اللـــــــــه !
ما أروع أن يقارنك أستاذك ، أو يشبِّهك ، إذا ما نجحت في تنفيذ فيلمك ، بمثلك الأعلى .. المخرج الشهير "مايكل أنجيلو أنتونيوني" !
كان ذلك مما زادك تصميما وإصرارا على التمسك بالسيناريو .
و كان أستاذك هذا ، بعد ذلك ، هوأحد أعضاء "لجنةالإختيار" المنوط بها ترشيح الفيلم الذي سوف يمثل النمسا في مهرجان سينما الشباب "سينيستود" Cinestud67 في أمستردام - هولندا .
ذلك بالرغم من المعارضة الشديدة من قبل بعض الأعضاء الآخرين ، لكونك أجنبي لا يحق لك تمثيل النمسا .
لكن الإعتبارات الفنية رجحت فيلمك "حكايه" Episode .
ووصلتَ أمستردام ، ممثلا للنمسا في المهرجان المذكور ،
وأنت لا تملك إلا الاحترام والتقدير ، إضافة إلى الآخرين ، لتلك الأستاذة النمساوية الفاضلة Dr.Agnes Bleier Brody التي بذلت جهدا لا ينسى من التأييد والدعم ، والتي نمى إلى علمك بعد ذلك أنها .. يهودية الديانة (!)

وهناك .. ظهرت المشكلة الثانية في هولندا ، بلد المهرجان ، حيث ترجح كفة اعتبار الفيلم يحمل جنسية مخرجه . وعندما بحثوا في أوراقك الرسمية ، وجدوا أنك تحمل صفة "غير مُعيَّن الجنسيه" !
بل ذهب بعضهم إلى اعتبارك إسرائيليا لمجرد وجود اسم "القدس" في خانة مكان الميلاد !
وفي حديث لإحدى الصحف ، حرصت على أن تعرف نفسك كلاجيء فلسطيني تحمل وثيقة سفر مصرية ، وقلت أن مكان إقامتك الذي تنوي فيه أن تبدأ ممارسة العمل ، والتسلح بالخبرة العملية ، بعد أن أتممت دراستك في النمسا ، هي القاهره . ويبدو أن الأمر قد اختلط على ناقل الخبر، ففي اليوم التالي ظهرت الصحيفة بعنوان بارز :
"وصول الدولة رقم 28 من الدول المشتركة في المهرجان .. وهي مصر."
وأخيرا ينتهى الأمر بان يعتبر الفيلم في سجلات المهرجان فيلما نمساويا .

جدير بالذكرأن مديراً لمهرجان أميريكي ، كان من ضمن أعضاء لجنة التحكيم ، قد طلب منك المشاركة بفيلمك في مهرجانه المشابه في الولايات المتحدة الأميريكية ، باعتباره فيلما يحمل جنسية مخرجه । وعندما أبلغته أنك ستكون ، وقت انعقاد المهرجان ، في القاهرة ، وعد بإرسال كتاب لوزير الثقافة المصري يطلب فيه مشاركة الفيلم في المهرجان الأميريكي .

* * *


ووجدت نفسك تقف أمام كاميرات التلفزيون وميكروفونات الإذاعة (والبرنامج العربي للإذاعة الهولندية) ومندوبي الصحف . لكن شعورك بمسئولية إختيارك والدفاع عن وجهة نظرك لم يبدأ إلا عندما واجهت طلبة معهد السينما في أمستردام بعد العرض الخاص الذي أقيم لهم .
(مارسوا مع عملك ما جعلك تفهم المعنى الحقيقي لـكلمة "تشريح".)
ومن أشد انتقاداتهم كانت مواجهتك بسؤال عن سبب استخدامك لموسيقى "رحمانينوف" التي غلفت مشاهد الفيلم والتي "باتت مستهلكة لكثرة استخدامها في الأفلام الرومانسية بمختلف جنسياتها".. هكذا قال أحدهم .
ولم تستطع أن تقنعهم بأنك في حقيقة الأمر قد بحثت طويلا إلى أن وجدت القصة التي تلائم موسيقى "كونشيرتو البيانو" المذكور .. وليس العكس .
كنتَ شديد الإيمان بأن التفاعل بين الصورة والموسيقى في السينما يخلق ما يسمى بالصورة السمعية .. أو الأغنية البصرية ..

ولدى عودتك إلى "فيينا"، وجدت في انتظارك جائزة أخرى ، وهي شهادة "تقدير للإبداع الفني"، مع جائزة ماليه ، صادرة من وزارة التعليم العالي النمساويه .
هذا .. بالإضافة إلى منحة تدريبية مدفوعة الأجر في تلفزيون النمسا ، لمدة ستة أشهر :
تبدأ في 15/3/1967 .. وتنتهي في 15 / 9 / 67 .

* * *


وأما الجائزة التي لم أكن أتوقعها ، فهي السيارة "الأوبل البيضا" التي أرسل لي ثمنها أخي "عابد" .. كإعتذار ..
أو كما كتب لي مازحا .. "رد اعتبار" !
قال لي أنه كان جادا عندما ظن بي الظنون .. ووصمني بأني دعيّ فشّار!

* * *


"موّال" معاداة الساميّه ..

لم يفت أعضاء الوفد النمساوي، وأنا أحدهم، أن يخصص يوما لزيارة معالم "أمستردام"، مدينة "ريمبراندت" Rembrandt و"جوخ" Goch .. ويوما آخر لزيارة متاحفها الفنية التاريخية .
كان ذكرالفنانين الهولنديين كثيرا ما يتردد في محاضرات"إدارة التصوير"، طوال السنوات الدراسية الماضية ، لما لأسلوب كل منهما من علامات بارزة في معالجة "الضوء" و "مصادرالإضاءة"، ولحظة انبثاق النورلتكون مرادفا للحظة انبثاق الوعي، التي ميزت عصر التنوير واليقظة ، في أعمالهم .
أذكرأنني في ذلك اليوم توقفت طويلا أمام لوحة "حراس الليل" الشهيرة لـ "ريمبراندت"، في المتحفالوطني، مما جعل بقية الزملاء يسبقونني إلى جناح آخر بدون أن ألحظ ذلك . لم يبق منهم سوى"هانيلوري" التي كانت تتأمل اللوحة بإمعان هي الأخرى . وعندما هممت بترك المكان ومواصلة السير استرعى إنتباهي وقوف رجلين بملامح وهيئة ليست بالغريبة عني . كانا يرتديان الزي المميز بـالـ "ساكو"، المعطف الأسود الطويل ، والقبعة السوداء ذات الحواف العريضة ، يتدلى سالفاهما المبرومان واللحية إلى كتفيهما والصدر . بادر الإثنان في الحديث إلى زميلتي حديثا سمعت بدايته ولم أجد في نفسي رغبة لسماع بقيته .
تركت زميلتي وتجولت في الأركان المجاورة وعدت إليها عدة مرات وهي ما زالت تستمع إليهما بانتباه وتهز رأسها موافقة على كل ما يقولانه. وبعد عدة جولات وعودات مني محاولة إعطاءها مبررا للتخلص من حالة الأسر التي استسلمت لها ، أصابني اليأس وحاولت أن ألتحق ببقية الزملاء الذين كانوا يقتربون من مكاننا . سألوني عن "هانيلوري" ، فأجبت مشيرا إليها :
- .. يهوديـــــان أحاطا بها يحاولان إقناعها بأن"ريمبراندت" كان يهوديا أيضا ..
فوجئت بزملائي يضعون أيديهم على أفواههم علامة وجوب إلتزامي بالصمت !
و همس أحدهم لي مفسرا ومؤنبا :
- هل تريد أن توقعنا في مصيبة ؟
ألا تعلم أن مجرد وصفك لأحدهم بكلمة "يهودي" يكفي لأن توجَّه إليك تهمة "السب العلني".. مما يجعلك تحت طائلة القانون ؟!
- سب علني ؟!
- نعم..لأن استعمالك لكلمة "يهودي" تشي بنية مبيتة ، متوارية ، لإهانة الشخص المخاطَب والانتقاص من قدره .

وهمس لي زميل آخر :
- ألا تعلم بأن الوسيلة الجديدة لإسكات العقول الناقدة وتحجيم حرية الرأي عندنا هي الإتهام بمعادة السٌامية ؟!
وأن هناك في بلادنا قانون يعتبر "معاداة السامية" جريمة تصل عقوبتها إلى إلى السجن عشرة سنوات ؟!
* * *

كأنك لم تستوعب ما قيل ، لأول وهلة ، وإن كنت قد لمست قبل ذلك كيف نجحت أجهزة الدعاية الصهيونية في تكريس الكثيرمن المحاذير وخلق العديد من "التابوهات" الخاصة باليهود واليهودية ، ومحاولة اصطياد أي تصريح أو موقف له ملامح المعادة للسامية ، ومواصلة وضع اليهود في كل مكان في حالة الإحساس بالخطر ، لكي يحرضونهم على السعي للخلاص .. والهجرة إلى "إسرائيل" .
وأعادك هذا إلى أحاديث المهندس الألماني "شولتس" عن ألاعيب اليهود وخرافات"اللا سامية".. "معسكرات الإعتقال" و"أفران الغاز" و"الهولوكوست".. و.. و"مصانع الصابون".
أصبح ذهنك ، لدى ذكر تلك المصانع ، التي كان يفترض أن تنتج صابونا من "شحوم" اليهود ، مهيأ لاستدعاء صور معسكرات الإعتقال المكتظة بسجناء أقرب ما يكونون إلى "الهياكل العظميه" المكسوة بالجلد (!) .
كما أمسيتَ تتذكر شخصية "زيطه" صانع العاهات في رواية "زقاق المدق" لكاتبنا "نجيب محفوظ"، كلما ورد إلى خاطرك ذكر "أجهزة الدعاية الصهيونية" .
هناك في اللغة الـ "ييديش" Jidisch ، وهي اللغة التي يتداولها "الأشكيناز"، يهود أوروبا الوسطى و الشرقية بالذات ، والمشتقة من عدة لغات أهمها الألمانية والعبرية القديمة والآرامية والسلافية ، هناك كلمة لا يوجد كلمة أخرى مرادفة لها في أي لغة من لغات العالم ، وهي :
"خوتسباه"Chutzpah التي تطلق على الولد الذي يقتل أبويه لكي يستدر عطف الناس لكونه " يتيم الأبوين" .
إن وجود مثل هذه المفردة في القاموس اليهودي لهو دليل على تأصل "ثقافة" الوصولية و الإنتحال والتزوير والنصب والإبتزاز لديهم .
* * *

أما عن زميلتي "هانيلوري" ، التي تمكنَت أخيرا من أن تنجو من أسر الرجلين اليهوديين ، فقد أجابت عن استفساري عن سبب استسلامها لهما ، وموافقتها على كل ما يقولانه بالرغم من يقيني بأنها تعرف مدى ابتعاده عن الصواب ، بترديدها للموال المشهور :
-॥ وهل كنت تريدني أن أخالفهما الرأي ليكون مصيري أن أتهم (والعياذ بالله) بأنني"معادية للساميه" ؟!


* * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق