السبت، 15 مايو 2010

"حكــــــاية عُمَــــــــر"


قد تكون "حكاية عُمر" ، مشروع فيلمي الروائي الثاني ، هي التي جعلتني أورد نص المقال المذكور . فبمجرد انتهائي من عمل ذلك الفيلم الأول ، ظل "عُمر" ، طالب كلية الفنون ، يلح علي أن أروي حكايته بعد أن اختفى وعاد إلى الظهور مقاتلا مع فدائيي الثوره الفلسطينية. وهو المشروع الذي حدثت "أبوإياد" مطولا عنه ، عقب مشاهدته لفيلم "الظلال .." ، قبل أن أنتقل إلى لبنان .

رأيت "عُمر" ينتقل ، بعد أحداث أيلول الأسود في الأردن عام 70 ، إلى لبنان . ثم يصيبه الإحباط ، إثر إحساسه بالحصار والقيود المفروضة على الحركة الفدائيه ، التي وصفها الزعيم جمال عبد الناصر بأنها أنبل ظاهرة في التاريخ العربي الحديث !
مات عبد الناصر. وساد الصمت المريب . وقرر "عُمر" الهروب من واقعه بعد أن تسلل إليه اليأس .

اخترت لـ ِ "عُمر" بلدا أوروبيا يلجأ إليها ، ليبدأ حياته من جديد . قلت ، فلتكن "ميونيخ" . فأنا أعرفها جيدا ، فهي أقرب مدينة ألمانية لفيينا .
ابتدأ "عُمر" حياته الجديدة بائعا للصحف . ومكنه التجوال في مقاهي المثقفين ، وهومشروع الفنان المثقف ، من التعرف إلى بعضهم ، من مختلف مشاربهم . وتوطدت علاقته بفتاة صحفية شابه من التقدميين ، الذين كانوا يؤيدون حركات التحرر، وينادون بمناصرة الشعوب المقهوره . وكانت تظاهرات الإحتجاج على حرب الفييتنام في أوجها .
استطاعت صديقته أن تمكنه من إيجاد عمل يدوي يتناسب مع مؤهلاته . بل إنها شجعته على الإلتحاق بأكاديمية الفنون الجميله ليواصل دراسته التي كان قد قطع شوطا كبيرا منها في القاهره . ولم يقصِّرأخوه ، الذي يعمل في إحدى دول الخليج ، في تشجيعه على مواصلة الدراسه ، ودعمه ماديا . إلى أن توفرت له كل مقومات الإستقرار في تلك البلد .
التوفيق في الدراسة ومن ثم العمل ، مما أتاح له دخلا لا بأس به .
شيء غير قليل من النجاح كفنان .
والكثير من الحب والإستقرار العاطفي .

دأبت "مريم"، كما كان يحلو لـِ "عُمر" أن يسمي صديقته "ماريا" ، على دعوته لقضاء الإجازة الأسبوعية عند عائلتها في منزلهم الريفي ، حيث رحب به أفراد عائلتها وأحبوه . هناك الأم والأب والجد والخالة والأخت والأخ.. والأطفال ، أبناء وأحفادا ، مما كان يعيد إليه ذكريات الطفولة بين أفراد عائلته ، ويوقظ حنينه إلى الأهل والبيت والأرض والوطن .
كانت "ماريا" واسعة الثقافه ، كثيرة الإطلاع على القضايا السياسية المعاصره . وكثيرا ما كانت تدخل مع "عُمر" في نقاشات حول تلك القضايا ، فيختلفان ، وتتكشف الكثير من الحقائق . أو يتفقان ، فتزداد الأواصر بينهما قوة .
وكانت كثيرا ما تأخذ على الفلسطينيين ، والعرب بشكل عام ، وهم أصحاب تاريخ وحضاره ، إغفالهم لدورالثقافة في معركتهم مع إسرائيل . وكانت تأتي له بالأمثلة عن تواجد إسرائيل بذكاء في كل مجالات الثقافة والفنون ، بحيث تلفت أنظار العالم إليها كدولة مسالمة حضارية لها تاريخ وجذور (!) وتقول ، أن إسرائيل تحارب من أجل وجودها ، إضافة إلى الأساليب الأخرى ، بعازف كمان يهودي ، أو مغنيه يهوديه ، أو ممثل أو فنان تشكيلي يهودي ، أو فرقة "فنون شعبيه" يهوديه ، أو حتى فريق رياضي يهودي !
الإعلام الذكي - كانت تقول- لا يقل تأثيرا في حروب التحريرعن المدافع .

ثم نرى "عُمر" في حياته اليومية وقد تغيرت ، بالتدريج ، نظرته إلى الكثير من مظاهرها. كأنما كان سعيه إلى النجاح وتحدي الظروف يلهيه عن رؤية الواقع . فإذا به ، في بعض المواقف ، يتعرض لما يوقظ لديه الإحساس بأنه سيظل ضيفا غريبا لا ينتمي إلى ذلك المجتمع المختلف طبعا وطبيعة . فلا النجاح في العمل ، ولا الإستقرار المادي ، ولا القدرالمتواضع من الشهرة ، لا ولا حتى زواجه من "ماريا" بقادر على أن يجعل منه "مواطنا" .. في غير بلده .
في هذا البلد ، الذي كان "عُمر" يتغنى بديمقراطيته ، أصبح يرى أن الديمقراطية سلاحا ذو حدين . فمصادر الصحافة "الحرة" تقع تحت تأثير المصالح التي تؤثر في اتجاهاتها . هذا بالإضافة إلى غياب المصدرالذي يتيح معرفة الوجه الآخر من القضايا المطروحه . فمن الطبيعي أن يتعاطف الأوروبي البسيط مع فكرة "انقاذ واحة الديمقراطية" في الشرق الأوسط . خصوصا إذا ما أجادت أجهزة الوسائط الإعلامية العزف على وتر "الضمير".. وساقت ، ليل نهار، الأمثلة والأدلة على ما حاق بالشعب اليهودي المظلوم ، على أيدي النازيه ، من عمليات الإبادة الجماعية .

ومن أخطر الأفكار التي دأبت إسرائيل على ترويجها ، وما زالت تسعى إلى نشرها في العالم بشتى الوسائل ، هي فكرة المقارنة بين مدينتي "القدس" و "برلين" . ذلك مما كان يصيب "عُمر" المقدسي في مقتل . فالمدينتان اللتان ، حسب ادعاء إسرائيل ، قد جرى تقسيمهما في غفلة من التاريخ ، يجب أن يتم توحيدهما (!)
هذا الطرح يصيب قبولا في ألمانيا بالذات ، ويحظى بتعاطف تلقائي في أوروبا بشكل عام .
كيف يمكن مواجهة هذه الأفكار بأسلوب آخر .. غيرالشجب العربي .. والإستنكار؟
كان إحساس "عُمر" بالعجزعن التصدي لذلك المارد الإعلامي مما زاد في إحساسه بالعزلة والإغتراب عن مجتمعه الجديد .
أخذ ينشد العزاء في أصدقاء فلسطينيين وعرب . ويعود إلى حظيرة الباحثين عن ذواتهم وعن مستقبل شعبهم ، ليقضي على ذلك الفراغ والإحساس بالغربه ، وحاجته المتزايدة إلى الشعور بالإنتماء . إلى أن أصبح يكثر من إعتذاراته لتأخره في مواعيده مع "ماريا" ، التي لاحظت أيضا ظهور وجوه جديدة تتردد على المقاهي أو النوادي التي كانوا يترددون عليها .
وفي أحد الأعياد القومية ، دعته الأسرة ، حيث كانت تقيم احتفالها السنوي في البلدة الريفية .
غنى الجميع ، ورقصوا مبتهجين سعداء ، وهو يراقبهم ، بينما تستعيد ذاكرته مناسبات مشابهة كانت تجمع شمل عائلته في طفولته .. في القدس .
لاحظ الجد ، الذي كان يعزف ألحانهم الشعبيه على آلة الأكورديون ، شرود "عُمر" ، فاحب أن يخرجه من وحدته . وطلب منه أن يغني أو يرقص كما يفعلون في وطنه ، في الإحتفالات الشعبية الفلسطينية . وما زال يستدرجه للغناء بمحاولة مرافقته بالآلة الموسيقية ، والكل يشجعون محاولته ، حتى إذا ما قارب إيقاع تصفيقهم ، على نغمات الأغنية الشعبية الفلسطينيه ، أن يصل إلى قدر من الإتقان ، التهبت أكفهم وحناجرهم في محاولة ترديد همهمات الأهزوجه معه ، بعد أن تمكنت الآلة أيضا من إلتقاط لحنها السهل المتكرر ، مما قضى نهائيا على تردد "عُمر" وخجله ، فاستجاب إلى محاولة "مريم" ، التي أخذت تستدرجه بدورها ، بما لها من بعض الدراية التي اكتسبتها منه ، إلى النهوض إلى الحلبه ، ليشاركها رقصة الدبكه ، فتحلقوا حوله مصفقين مهللين ، وهو يلوح بمنديله المعقود ، تزداد ضربات قدميه على الأرض قوة ، وقفزاته في الهواء علوا ، كأنما قد تحرر لتوه من قيود لم تكن مرئية ، في رقصة "زورباوية" صاعدت من حماسهم ومشاركتهم . إلى أن سقط على مقعده منهوك القوى بين تصفيقهم وتهليلهم .

نراه بعد ذلك وهو يتقلب على جنبيه محاولا ، عبثا ، أن يخلد إلى النوم . ثم ينهض ليطل من نافذة الغرفة العلوية إلى حديقة المنزل الريفي ، ويمتد نظره إلى الأفق البعيد الذي ابتدأت تباشير الصباح تكسوه بثياب النور .
ونسمع لحن تلك الأغنية الشعبية الذي يتحول تدريجيا إلى نغمات يشوبها الشجن و الحزن النبيل .
"يامّه مويل الهوى .. يامّه مويليّا .. .. .. "
"ضرب الخناجر ولا حكم النذل فِيّا .. .. .. "
ويمر شريط الذكريات أمام عيني "عُمر" .. مختصرا مركزا صامتا .. وينتهي بما كان يجري في الأيام الأخيرة من محاولات لإقناعه ، من قبل بعض الوجوه الفلسطينية التي تكرر ظهورها في الفترة الأخيره ، بالعودة إلى صفوف الفدائيين .

تستيقظ "ماريا" ذات الصباح . تبحث عن "عُمر" فلا تجده .
ثم نراها تجوب المدينة - ميونيخ- باحثة عنه في كل الأماكن والمقاهي التي كانا يترددان عليها .
وفي أثناء بحثها وتجوالها ، تطالعنا في خلفية المشاهد ، ملصقات جدارية ولافتات ضخمه تعلن عن دورة الألعاب الأولمبيه،عام 1972 ، التي تعد لها مدينة "ميونيخ" ، بينما نحن نسمع لحن الأغنية الشعبية الفلسطينية الموغل في الحزن .. الموشى ببصيص أحلام الخلاص .

* * *

كان صديقي الأسباني "ضيف الله" ، الذي استقر به المقام في باريس ، والذي اتفق أن إلتقيت به في القاهرة أثناء رحلته التي طالما خطط لها ، هو صاحب الفضل بالإتصال بالممثلة الأمريكية ، "جين فوندا" ( التي ظهرت صورها ، في ذلك الوقت ، وفي كثير من المناسبات ، وهي تتلفع بالكوفية الفلسطينية معلنة عن وقوفها إلى جانب الثورة الفلسطينية . كما اشتهرت قبل ذلك باسم "جين هانوي" لموقفها المساند للفيتنام) ومن ثم الحصول على موافقة مبدئية منها على القيام بدور "ماريا" .
كان هذا هو مشروعي الذي حملته ، وحلمت بتحقيقه في بيروت . والذي وعدني "أبو إياد" بأن يدفع إلى تحقيقه .
والغريب أن كل من قرأ المعالجة ، سواء المختصرة منها أو الموسعه ، كان يشيد بالأفكار التي يحتويها مشروع الفيلم ، بما في ذلك محاولة تكريس فكرة ومبدأ "نقد الذات" . فهناك إشارة إلى خطورة الوقوع في نفس الأخطاء التي وقعت فيها الثورة الفلسطينية في الأردن ، والتي أدت إلى أول "نكسة" في عمرالثورة الواعده . هذا بالإضافة إلى التحذير من خطورة الرفاهية التي أتاحها أو أباحها بعض القياديين ، أو المقربين منهم ، لأنفسهم .. فقلدهم البعض الآخر .. وهلمّ جرّا !
صحيح أنني لم أعايش تطورات "الثورة" في الأردن . ولكنني قرأت وسمعت وعرفت ما فيه الكفاية لكي أدرك أسباب تلك النكسه .
بل إنني قابلت وجالست واستمعت وسجلت للكثيرين ممن عايشوها من مختلف المستويات .
وكما ألهبت الصورة المشرقة مشاعر الكتاب والشعراء والفنانين وألهمتهم أعمالا سوف تظل تحدث الأجيال عن "أنبل ظاهرة في التاريخ العربي الحديث" ، كذلك كان هناك من بادر بدق ناقوس الخطر، وإن على استحياء .
كانت الأفكار التي وردت في المعالجة السينمائية لمشروعي الجديد من وحي إطلاعي ومتابعتي ودراستي وتحليلي لما يجري في لبنان بعد خروج قوات المقاومة من الأردن .
وها هي الفرصة قد حانت ، أو أوشك حينها ، للمعايشة الحقيقية . وهو الشيء الذي كنت أعد له منذ زمن .

* * *



نهايـــــــــــــة مرحــــــــــــــلـة ..

نعم ، كان لا بد لك من فترة تكفي لاكتساب الخبرة العملية ، التي استطعتَ أن تحصل عليها من عملك مخرجا للدراما في تلفزيون القاهرة لمدة جاوزت الست سنوات . هذا إلى جانب خبرات أخرى أتاحها لك قربك من تلك الباقة من الأصدقاء ذوي العلاقة المتميزة بالموسيقى والأدب والشعر والفن التشكيلي . وأنى لك أن تنسى مسارح الدولة في عهدها الذهبي .. أو دار الأوبرا العريقة ، التي فجعت بحريقها ذات يوم خميس (28/10/71) ** ، بعد أن أصبحت من روادها الدائمين بفضل صديقك "سامي رافع" الذي تلقفته الدار واحتضنته مبدعا .

وفي الوقت الذي شعرت فيه أن وجودك في القاهرة قد استنفذ أغراضه ، كما أسلفت ، تقدمت أو عاودت الإلحاح على طلب "التفـــــــــــــرّغ" للعمل في " منظمة التحرير" .
ولولا العقبات الرقابية التي كانت تحول دون عرض فيلمك الروائي الأول "الظلال في الجانب الآخر" ، والذي كنت تعتقد أن عرضه في مصر والبلاد العربية سوف يكون بالنسبة لك
بمثابة بطاقة التعريف بك كمخرج سينمائي قادرعلى صنع الفيلم
الفلسطيني الروائي .. لولا ذلك لكنت قد بادرت بالسعي للتفرغ فور انتهاء العمل بالفيلم .

في أوائل عام 73 ، أقيم في مقر جمعية النقاد السينمائيين عرضا خاصا للفيلم ، حضره معظم العاملين في مكاتب الثورة الفلسطينية في القاهرة . . بالإضافة إلى "أبوإياد" ، عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" ، الذي تصادف وجوده في زيارة للقاهره .. فكان لقاؤك الأول به .
عانقك "أبو إياد" بعد العرض مهنئا ، ومؤكدا على ضرورة سفرك متفرغا للعمل إلى بيروت .
قال لك وللحاضرين بحماس شديد :
"هذه هي اللغة التي نستطيع أن نخاطب العالم بها .. فهذا هو الإعلام الحقيقي المؤثر !"

كدتَ أن تطير فرحا وسعادة وزهوا . فلقد وصلت رسالتك .
قلتَ له ممازحا :
"إذن لقد نجحتُ في الإمتحان ."
قال :
" .. وبتفوق .. ومرحبا بك في بيروت !"

ثم حدثته باختصارعن مشاريعك القادمة .. فيلم"حكاية عمر" و فيلم "المجموعه 778" .. أول مجموعة فدائية فلسطينية نشأت في الأرض المحتلة عام 48 .. و ..
____________________________________________
(**) في 28/10/1971 جرى حريق دار الأوبرا المصرية التي بناها الخديوي إسماعيل . وكان قد تم افتتاحها في 29/11/1869 بعرض أوبرا "ريجوليتو" المأخوذة عن قصة "الملك يمرح" لفيكتور هوجو بدلا من "عايده" التي كتبها "فيردي" خصيصا لهذه المناسبة ولكنها لم تكن جاهزة في هذا التاريخ .
ولقد تم أول عرض لأوبرا "عايده" في أوروبا (في ميلانو) في 8/2/1872


* * *



(بقية) " فضـــــفضـــــه " ..

"ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ" ، أو تلك الإستراحات التي يجد فيها الإنسان ، والفنان بالذات ، وقتا لِذاته ! هل يمكن أن تكون مشاريع الفنان كلها مقتصرة على عمله ؟ وهل هناك مفر من الوقوع تحت تأثير "حالات إبداعية" أخرى تفرض نفسها على الجانب الآخر من حياته ؟
فما أكثر ما كانت لك ، شأن الآخرين ، شطحاتك وعثراتك ولحظات ضعفك وحاجاتك .. .. .. !

* * *


كنت أسكن في غرفة مفروشة مقتطعة من شقة عائلة من الطبقة المتوسطة في حي تعود الطلبة أن يلجأوا فيه إلى هذا النوع من السكن .
والديّ وأخواتي يسكنون الإسكندرية منذ عام 1957 ..
أمي كانت تنتظر زياراتي وتفرح لها .. ولكنها كانت تنظرلي دائما بشيء من العتاب .. وفي عينيها ذلك التساؤل الذي لا تمل من تكراره ، شأن كل الأمهات ..
"متى يابنيّ .. .. ..؟"
كانت أحوالي المادية لا تسمح لي بالتفكير في ذلك . هذا إلى جانب شعوري بعدم الاستقرار وإحساسي بالذنب والمسئولية تجاه أخي الذي تولى رعاية الأسرة ماديا منذ عام 48 .. والذي تضاعفت مسئولياته وإلتزاماته بعد زواجه .. ولم يبرح مكان عمله في السعودية (حتى وافاه أجله هناك عام 83 ) . لكنه كان لا يفتأ يكتب لي ويعبر لي عن سعادته وهو يقرأ أخباري في الصحف ويقول مشجعا .. إستمر ولا تشغل بالك !
كنت دائما أبوح له ، كتابة ، بكل ما ينوء به صدري .
قال لي أكثر من مرة : " أنا مؤمن بما تفعل .. ولو كنت مكانك لما فعلت غير ذلك .."
ومرة أخرى قال لي : " إسمح لي أن أستمتع بالفخر بأنني أساهم بأن تصبح الشيء الذي تريده !"

وكتب لي مرة بأسلوبه الساخر :
" أشعر بضآلة ما يقتطعونه من مرتبي لصالح الثورة ، ولذلك فقد اقتطعتك أنت من حساباتي لأقدمك لها ، هذا كل ما يمكنني عمله من أجلها. فامض في طريقك لأني سعيد بما استطعت أن تنجز حتى الآن .. وسوف يسعدني أكثر أن تنجز أكثر وأكثر! وسوف يسعدني أكثر وأكثر أن أشعر بأنني قد أنجزت وعدي لك بأنني سوف أعمل على أن أحقق لك ما تمنيته لنفسي ؟
إذن فما عليك الآن - بعد أن وفيت أنا بوعدي .. أو كدت- إلا أن تحقق لي ما أتمناه الآن .. وهو أن أراك سخياًّ في عطاءك .. وأن تحقق لي ما تتمناه أنت لنفسك ."
وكتب لي في مرة أخرى يقول :
" كيف يمكن ، بعد أن قرأت ما كتبوه عن موهبتك ، هبة الله لك .. ولنا ، أن يتوقع مني أحد غير دعمك والوقوف إلى جانبك ؟ ولولا الضرورة والحاجة والإلتزامات العائلية التي تقتضي وتحتم بقائي هنا في السعودية لوجدتني واقف معك .. عامل "كلاكيت" !
ويتضخم إحساسي بالمسئولية .. والخوف من أن لا أكون أهلا لكل تلك الثقة .
لم يكن أخي"عابد" أقل إلحاحا عليّ من أمي فيما يتعلق بالزواج والإستقرار . ولكنه كان أكثر ذكاء في تلميحاته وتصريحاته .
كان دائم السخرية مني ومن نظرتي إلى الحب والزواج . فقد كنت دائما أومن أن الحب سلوك أخلاقي حتى لو لم يكن مكللا بالزواج ، ولكنني كنت أومن أيضا أن الزواج بدون حب هو السلوك الغيرأخلاقي بعينه . بل أنني كنت أذهب إلى الإعتقاد بأن مجرد قبلة يتبادلها زوجان هي في ذاتها خطيئة إذا لم يخالطها ويعمُرُها الحب .
كان أخي "عابد"، القاريء النهم كما عرفته ، لا يفتأ يشبعني سخرية و تنكيتا وتبكيتا ، يذيل رسائله دائما بأقوال مأثورة ، أو أخرى من بنات أفكاره ، تتناسب مع موضوع جاء ذكره في رسالتي إليه أو في رده عليها .
ذلك على غرار :
" ما أسوأ أن تقع في الحب ثم تفقده .. ولكن الأسوأ من ذلك .. أن لا تحب أبدا !"
" الرجل العاقل هو الذي يعمل على الزواج من المرأة التي يحبها ..
والأعقل منه .. هو الذي يعمل على أن يحب المرأة التي يتزوجها ."

" ليس هناك أجمل من أن يكتشف الآخرون مزاياك الحميدة .
فامنحهم الفرص للمزيد من هذه الإكتشافات ."

" في حياة كل منا قدران ، قدر تكتبه السماء ، وقدر نصنعه نحن بأيدينا ."
إلخ .. إلخ ..

* * *

وعن "أوسكار وايلد" أنه قال :
" ثمة مصيبتان في الحياة ، الأولى أن لا تحصل على ما تريده وتتمناه ، والثانية .. أن تحصل عليه !"

ففي أثناء قيامك بالإعداد لفيلمك الروائي الأول وبحثك في دار الإذاعة عن تسجيلات لموسيقى فلسطينية .. لكي تستخدمها في بعض مشاهد الفيلم .. أحالوك على إذاعة فلسطين في"صوت العرب".. حيث ستجد بغيتك .
لم تجد هناك ما كنت تبحث عنه.. ولكنك قابلت "هـ " التي استطاعت أن تدفعك لاختلاق أسباب أخرى لزيارة ذلك المكان .. والتي سعدتَ بوجودها إلى جانبك فترة ليست بالقصيرة .

في لقاء لكما خارج نطاق العمل ، بعد بضعة أشهر من اللقاء الأول ، وبعد غيبة أيام قضيتَها في الإسكندرية ، تعرضتَ فيها لموجات من الشحنات العاطفية التي كان يبوح بها صمت أختك الكبرى "حُسن" ونظراتها اللائمة ، وهي التي أخذت على عاتقها أن تواصل ما دأبت عليه والدتك .
قلتَ لها - لـِ "هـ"- فجأة وبعفوية شديدة :
- اشتقت إليك !

رمقتك بنظرة طويلة تحمل من المعاني ما يحتاج لكثير من البلاغة لكي تقال . ثم أوجزَتْ :
- وأنا أيضا !
قلتَ لها بعد عدة لقاءات أخرى :
- عندما تقول لي إحداهن "أحبك"! فهي إذن قد استطاعت أن تكتشف ما في داخلي من قيم . ولا تستطيع ذلك .. إلا من كانت تمتلك مثل هذه القيم .

وعندما فاجأتكَ بسؤالها لك عن تينك الأخريات ، قلتَ لها ما قاله أحد الظرفاء :
- الأخريات يا عزيزتي كن صديقاتي .. لكنك ستكونين أرملتي .
ضحكتما ، واعتبرتما ذلك الحوارالقصير المقتضب بمثابة عرض للزواج وقبول له من كليكما .
وسرعان ما سربتما الخبر لمن يهمه الأمر .. فذاع وانتشر .

ولم يبق سوى صدور تصريح الرقابة العامة بعرض فيلمك "الظلال .." ، وبالتالي استلام قيمة أجرك المؤجل لما بعد العرض عن كتابة السيناريو والإخراج **، حسب الإتفاق ، لكي تحل مشكلة الإلتزامات المالية لمشروعك الجديد .. مشروع الإستقرار العاطفي .

__________________________________________
(**) على فكره .. لعله من الطريف أن أذكر أن ما تسلمته من أجري المذكور ، حتى كتابة هذه السطور، هو400 جنيها فقط لا غير، من أصل 2000 من الجنيهات ، حسب ما جاء في العقد ، عن كتابة السيناريو والحوار .. والإخراج .


* * *


مهرجان "جَمَـــصَـــه" السينمائي

ثم يتقررعقد أول مهرجان قومي للسينما المصرية.. في منتجع "جمصه" .
ويتقررأن يشارك الشباب السينمائي في لجنة التحكيم ، التي كان يرأسها شيخ المخرجين والنقاد "أحمد كامل مرسي" .
وتكون أنت أحد الأعضاء الممثلين للسينمائيين الشبان في تلك اللجنة . كما يتقرر عرض فيلم"الظلال .. .. " خارج نطاق التحكيم لكونك عضوا في لجنة التحكيم تلك (!)

كنتم ، جماعة السينما الجديدة ، تعتبرون بكل فخرأن ذلك يدخل في نطاق إنتصاراتكم التي حققتموها .
وينتهي المهرجان . وتنهي لجنة التحكيم التي كانت تجتمع في منزل "أ. ك. مرسي" مهامها ومن ثم يرسل المظروف المقفل الذي يحتوي على النتائج إلى وزارة الثقافة .
وتنتظرون إعلان النتائج .
وبدلا من ذلك تصل أعضاء لجنة التحكيم دعوة لاجتماع استثنائي (!)
وتتناقل الأوساط الثقافية تكهنات متشابهة تفيد بأن وزير الثقافة ، يوسف السباعي ، لم يكن راضيا عن "يوسف شاهين" الذي كان قراراللجنة في صالح فيلمه "الإختيار" . ويبدو أن النتيجة كانت قد "تسربت" إلى الوزير فأعاد المظروف مقفلا إلى رئيس اللجنة .

في ذلك اليوم وصلتَ ، كعادتك ، مبكرا لتجد أحد أعضاء اللجنة الشبان يقف منتظرا بباب العمارة التي يسكنها أستاذنا "أ.ك.مرسي". أبدى العضو المذكور ارتياحه ، ورأيه في عدم الدخول انتظارا لوصول بقية الأعضاء لكي يتم الإتفاق على موقف رافض للاستسلام لإرادة الوزيرالفردية ، لما في ذلك من هدر للقيم التي تؤمنون وتنادون بها .
في بداية ذلك الإجتماع الإستثنائي أخذ أستاذنا يسترسل في التمهيد لشرح الغرض من الإجتماع ، ثم (بعد أن عاجله أحدنا بالجملة الدارجة "هات من الآخر") لم يجد مناصا من إعلانها صريحة بأن المطلوب من اللجنة .. أن تعيد تقييمها أو تقويمها (!)
الحق يقال ، أن جميع أعضاء اللجنة ، وعلى رأسهم الشبان الثلاثة طبعا ، قد أبدوا رفضهم للإنصياع لإرادة فردية شخصية لما فيها من مخالفة للقوانين والأعراف .. والضمير .
ولم تكد تسعد بذلك الموقف الجماعي الذي كان يلبي اللهفة والشوق إلى ممارسة ذلك الشيء الذي طالما ناديتم به .. حرية الرأي .. حتى وجدت نفسك شيئا فشيئا تقف وحيدا ، وأنت تبدي رفضك للتراجع ، أمام محاولات أستاذنا "أ.ك.مرسي" المشينة بقبول فكرة تلفيق النتيجة بما يرضي سيادة الوزير، بعد أن تراجع الجميع عن مواقفهم الرافضة الواحد تلو الآخر .
كانت أسبابهم جميعا لا تتعدى الإشارة إلى كونهم موظفين في الدولة ولا يستطيعون "قطع أرزاقهم بأيديهم" .. بمخالفة إرادة معالي الوزير .
وأمام إصرارك على رفض إتخاذ الموقف المتخاذل ، إتهمك الجميع بأنك "تزايد" عليهم رجولة والتزاما ، بحجة أنك لن تتضرر من جراء فصلك من وظيفتك في التلفزيون ، حيث أن كونك فلسطيني الجنسية يجعلك تمتلك الخيارات للعمل في أي بلد عربي آخر .
بل إن أحدهم صرح ، كمن يفشى سرا ، بأنك كنت تسعى فعلا للتفرغ للعمل في إعلام "منظمة التحرير" (!)
وبذلك وجدت نفسك متهما بالإنتهازية .. والأنانية .. وعدم مراعاة ظروف الآخرين .
ثم وجدت نفسك ، مراعاة لتلك الظروف ، ترضى بالحل الذي يقترحه رئيس اللجنة ، الذي كان بمكانة الأستاذ والمعلم منك والذي أحرجك وأخجلك موقفه وهو يسدد لك نظراته اللحوحة بينما هو يمسك أسفل ذقنه بأطراف أصابعه مذكرا إياك بأنه أخاك الأكبر وفي مقام والدك الذي يحرص على مصلحتك .. ألا وهو الإستقالة من لجنة التحكيم .
لكن اللجنة لم تقبل إستقالتك لكونها .. إستقالة "مسبَّبة" .
ولم تجد مناصا من الموافقة على كتابة صياغة أخرى "غير مسببة" ، مؤكدا لرئيس اللجنة وأعضائها أنك لن تتعهد بالسكوت عن إبداء أسباب الإستقالة فيما لو تعرضت لأي مساءلة شفوية بهذا الشأن من أيّ كان .
(لعلك تذكرأنك قابلت في مساء ذلك اليوم صديقك الأديب "مجيد طوبيا" .. وأنه سألك .. وأنك أجبته بصراحة.)

وانتهى الأمر بأن ظل الوضع على ما هو عليه .
وأسدل على الموضوع برمته ستار الكتمان ، فكانت تلك الظاهرة التاريخية الفريدة .. مهرجان سينمائي ومسابقة ولجنة تحكيم .. بدون إعلان النتائج !
وبلا عودة لإقامة ذلك المهرجان السنوي بعد ذلك !

* * *

كانت لي محاولة يتيمة ، سمِّها نزوة ، لكتابة مسرحية من فصل واحد حول تلك اللجنة التي يتبارى فيها أبطالها ، أعضاء لجنة التحكيم ، في الحديث عن المثل العليا والضمير والتمسك بالمباديء والتصدي لكل ما من شأنه أن يمس حرية الرأي .. ثم تأتي لحظة الحسم التي يتساقط فيها أبطال المسرحية الواحد تلو الآخر .. لكلٍ أسبابه الإنسانية ودوافعه المادية وأعذاره المنطقية (!)
ويتخلخل جدار الصمود وينهارأمام قهرالظروف وجبروت السلطة .

لكنني تذكرت ، بعدما قطعت شوطا في الكتابة ، أن الموضوع مكرر إلى درجة الإهتراء فتوقفت .


* * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق